الصورة وتجلّيات الخطاب البصري

image_pdf

يبقى الإنسان الذي أبصر قبل أن يتكلم ورسم قبل أن يكتب، يبقى هذا الإنسان هو موضوع الصورة المتميز، الإنسان بأوضاعه الاجتماعيَّة وحالاته النفسيَّة وعلاقاته الممتدَّة مع الطبيعة. فمنذ أن عرف الإنسان الكهف كمأوى، جعل من جدرانه مستودعاً يحفظ له ما يحكيه خياله منذ فجر التاريخ. فأقدم صورة عرفتها جدران كهوف (الأسكو) و(التانيرا) و(تاسيلي) رسمها الإنسان تعود إلى ثلاثين ألف سنة.

والصورة من مميزاتها أنها (رمزية) لذا فهي أفضل من ألف كلمة، كما تقول الحكمة الصينيَّة. والصورة يحكمها قانون: (أن ترى يعني أن تختصر). وكل شيء يريد أن يتحوّل إلى صورة، حتى اللغة جعلت من الأصوات والحروف صورا. ومسيرة الصورة عبر تأريخها الطويل مرتبطة بتطور العين في قراءة الصور وتأويلها.


لقد كانت العين أداة للإحساس بالمسافة فأصبحت الأداة الجوهرية للإحساس بالحداثة، كما عبر عن ذلك المفكر (ديفيد بروتون). وضمن هذه السياقات التطوريَّة للممارسة البصرية أصبحت للصورة مصداقية تفوق مصداقية الواقع على الصورة، فالسلعة التي لا تشبه الصورة تكون غير مرضية لنا. وتجاوزت الصورة هذه النقلة التي صنعت فيها واقعها الفائق إلى نقلةٍ خطيرة حين صدمتنا بواقعٍ جديد، هو (الواقع الافتراضي) فأنظمة هذا الواقع الافتراضي تضع الإنسان بداخلها كما لو أنه يعيش أو يندمج جسدياً داخل ذلك العالم، يرى ويسمع ويلمس.

وكلمة افتراضي لا تشير إلى شيء يوجد عند مستوى التخيل فقط، إنها تجعل الشخص يتعامل معها كما لو أنّه يزاول نشاطا طبيعيا. والصورة الافتراضية هذه صارت تستعمل في مجالات حياتية حساسة ومهمة، كمجال الطيران والعمارة والجراحة والحرب والفضاء. هذا وقد أعلن عن أول حديقة افتراضية في مدينة (أوزاكا) في اليابان.

كيف نقرأ الصورة كخطاب بصري؟

هناك أكثر من دلالة ثاوية في متن النص البصري، يسعى المهتمون بالصورة للوصول إليها. لذلك تعدّدت المدارس والنظريات في قراءة النصوص البصرية.

أي بقراءة الصورة بأبعادها الثلاثية: البعد المادي، والبعد الشكلي، والبعد الدلالي والتي تستوجب بعض المهارات والقابليات منها: ما هو تقني، وما هو بلاغي، وما هو تأريخي، فهي نسيج حي يلتقي عنده الإدراك، والوعي، والثقافة، والجمال، والسلطة، والتأريخ، كل هذا حتى تستنطق الصورة ونستخرج دلالاتها ومضامينها الكامنة فيها، فقراءة أي صورة يعني الدخول في علاقةٍ ذات معنى مع العمل الفني نفسه، للوصول إلى العلاقات والانساق التعبيرية التي تنظم ذلك النص البصري.

هناك مرحلتان في قراءة الصورة:

  • التأمل الذي يحيلنا باتجاه المظهر البصري لها.
  • الفعل الذي يحيلنا إلى رموز الصورة لنركز عليها ونفككها ونفهمها كمضمون لرسالةٍ بصرية. وتحليلنا للصورة لا يأخذنا إلى الخلفية المادية لها، فهو لا يشير إلى الفيزياء أو الكيمياء، أو كل ما له علاقة بتكونها المادي، ولكن يقودنا إلى الإحساس بالمعنى.

من خلال ما تقدم نرى أن كيفية قراءة الصورة ليست بالأمر البسيط، فمن لا يعرف البعد التأريخي للنص البصري مثلا قد تكون قراءته مبتورة، لأن الدلالة التاريخيّة قد تحيلنا إلى فهمٍ أعمق للصورة. فالسائح الذي ينظر إلى (برج إيفل) في باريس (كصورة بصرية) دون أن يعرف قصة وتأريخ هذا البرج، يرى فيه عملا هندسيا عملاقا ورائعا، تحتضنه منطقة سياحية جميلة فحسب، لكن الفرنسي يرى في صورة البرج شيئاً آخر، يراه كجزء من تأريخ بلاده. وكذلك الحال فيمن يفتقر إلى ثقافة لونية، قد يرى الألوان من خلال طيفها الفيزيائي الذي لا يحمل الدلالات التي تعنيها الصورة كخطاب بصري، عندها يكون قد قرأ الصورة قراءة فوتت عليه الكثير من الأنساق التعبيرية التي يتوفر عليها ذلك النص البصري.

ولأهمية الصورة في حياة الإنسان فقد انحاز لدراستها علماء كبار من أمثال الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه فالصورة عنده، هي إبداع ينتمي إلى شكل من أكبر أشكال الفكر وهو: الفن.

ونظرا لهذه الأهمية والمنزلة، فقد استخدمها الدين واستثمر قوتها لاستمراريته وذيوعه وممارسة سلطته، فسلطة الصورة إذن تغذي سلطته، وتمنحها التماسك والقوة التي يحتاجها خطابه الذي غدا بدوره صورة.

ويؤكد ريجيس دوبريه على قوة الصورة وسلطتها. فالصورة بنظره سلطة، بل سلطة السلطات، إنها السلطة الرمزية بامتياز. ولقد تحولت الصورة مع تحول التقنية، فظهور المطبعة قلص من سلطة الكنيسة، مالكة الصورة والمهيمنة على ما فيها من قوة، بسبب انتشار المطبوعات التي جعلت الصورة في متناول الجميع. عندها أطلق دوبريه عبارته المدوية (الصورة إنجيل الفقراء). وذلك لأن الصورة لديها خاصية كونها قابلة للتأويل فهي تنفتح على جميع الأعين التي تنظر فيها وإليها، إذ تمنحها إمكانية الحديث عنها، وتقديم تأويلات متعددة ومختلفة حولها، ولأن لغة الصورة ليست لغة تقريرية مباشرة، يمكن أن تثير فينا كثيرا من التساؤلات، وبالتالي تفرض على المشاهد من خلال خطابها الصامت الإيمان بالكثير من حمولتها التأويلية والدلالية.  

جديدنا