البُعد الآخـر في المعارك الفكريَّة

image_pdf

في النقد الجديد ثمة إشكالية معرفية حول علاقة المؤلف بالنص، هذه العلاقة تتعدّد طبيعتها بحسب المناهج والاستراتيجيات التي تقرأها وتحللها، وتختلف إلى حد استحالة توصيفها وصفًا دقيقًا وتصنيفها، وذلك يرجع إلى تداخل المرجعيات وتشابك العقلي مع اللاعقلي (=على سبيل المثال لا الحصر: استراتيجية التفكيك)، لهذا يصعب أن نقبض على فكرة واضحة يمكن التعبير عنها استنادًا على أسس منطقية واستدلالية، لذلك فالثنائية التي تحكم هذه العلاقة ليست الإبهام والوضوح؛ بل المعيار الذي يحكم ـ أصلًا ـ ليس من طبيعة ثنائية، وإنما من طبيعة فوضوية، ويتأسس على مراتب الغموض، أي إن الفهم ينبني على الصعود والنزول في مدارج الإبهـام.

فمن المفاهيم التي يصعب إدراكها، مفهوم “موت المؤلف”، ومفهوم “التفكيك”، وغيرها من المفاهيم التي ـ حتى لو اقتربنا من فهمها ـ تظل مائعة وسائلة يصعب على الذهن أن يقبضها ويتصورها، وحتى إذا طلبنا من مبدعيها تعريفها وتحديدها سنقف في حديثهم على فوضى ثاوية خلف عقولهم، فكأن الهدف من وضعها هو التنصل من سلطة العقل مهما كانت نوعية هذا التنصل، حتى لو كان الاكتفاء بالتغميض فقط.

لكن بعض المفاهيم، وإن كانت من هذه المجموعة، إلا أن الأرشيف الدلالي الذي نحمله في عقولنا يجعلها مُدرَكة لنا على غير قصد أصحابها، ومنها: مفهوم “لذة النص”، فأنت يمكنك أن ترجع إلى أي كتاب في التراث النقدي فتقف على حقول دلالية تقارب العلاقة مع النص بوصفها متعة لها خصائصها المعروفة التي تبتدأ من جريان الماء في الفم، لكن ما أن ترجع إلى التفتيش في قصد مبدع المفهوم حتى تقف على مقاصد تتباين مع هذا الأرشيف من وجه، وتشترك معه من وجه آخر، فلذة النص عند صاحبها يُمثّلها بلذة “التلصص الجنسي”، وهي لذة يمتزج فيها العُصابي الشبيه بالمازوخي/السادي مع الابتهاج والسرور، وهذه اللذة في رأيي لا يمكن أن تنطبق على كل نص، فلو أردنا أن ننظر إلى نص في حدود هذه الدلالة فلا يمكن أن يكون كذلك إلا نص المعارك الفكرية.

من المكابرة أن نجحد العمق النفسي الذي يصحب تلقّي نصوص المعارك الفكرية، سواء كانت تراثية قديمة أو حديثة معاصرة، فالسجالات في كل تجلياتها الثقافية تنطوي على متعة باذخة تتعمق بحسب درجة العُصاب الذي نحمله لتلك الفكرة التي تقدح زناد الحرب.

ومن الأوهام أن نؤطر كل معركة بإطار يتأسس على منطق الحجاج وآليات الاستدلال والبرهنة، فالرغبة في عقلنة الحوار وتنسيق الجدل بأدبيات المناظرة تتهاوى أمام الأبعاد النفسية الدفينة التي تكمن في ما وراء الحجاج، يمكننا أن نقف على مصنفات عديدة ومؤلفات كثيرة تبحث في قوانين المناظرة، لكن ما ينقص هذه القوانين هي المحايثة الواقعية التي تطبع كواليس الجدل وتتسم بمازوخية شديدة، وهي التي لا تصمد أمامها أقوم الآليات الجدلية وأحكم الأدبيات الحوارية.

لا أعتقد أن ثمة آلية حوارية يمكنها عقلنة تصريح هشام جعيط بأن شهرة محمد عابد الجابري دليل على انحطاط الفكر العربي واحتفاء أبي يعرب المرزوقي بهذا التصريح، ولا أن ثمة آلية يمكنها أن تفسر لنا امتداح جورج طرابيشي لطليعة مشروع نقد العقل العربي ثم انقلابه عليه بحجة إنزال الجابري من عرش الثقافة العربية، ولا في وصف طه عبد الرحمن لحسن حنفي بالمخلوط. ولنتأمل في شهادة العروي على طه، يقول ـ في (خواطر الصباح/3)ـ: “شارك في النقاش المغربي طه عبد الرحمن الذي يدرّس المنطق في جامعة الرباط. سألني متجرئا: هل أنت واع بمسلمـاتك الكثيرة وغير الدقيقة؟ هل التاريخ يسير بدافع ذاتي أم بقوة الغلبة والسلطان؟ هل التاريخ هو نظرية التاريخ؟ هل القطيعة أمــر ممكن؟ من يطرح مثل هذه الأسئلة يشهد على نفسه أنه لم يقرأ كتبي أو لم يفهمها لأنـي لم أكتب إلّا في شأنهــا.”، ولندقق في كلمة “جرأة”، إنها تبدو كأن العروي ينظر إلى الفرق بينه وبين طه كالفرق بين هارفارد والزاوية البودشيشية!

ولننظر إلى نمط آخر أشبه بنمط “التصفية الرمزية”، وهو ما ذكره الجابري ـ في حوار معه ـ بـ”أن هناك من يعملون بإصرار وتصميم على تحطيم ما يسمونه شهرة ونفوذ الجابري على الساحة الثقافية”، ويقول في الحوار نفسه:”هناك تخطيط من طرف زملاء مشارقة؛ شيوعيين ويساريين، جمعتهم ندوة في تونس فعقدوا جلسة على هامشها وخلصوا بالنتيجة التالية: وهي أن كتابات الجابري الابستيمولوجية خطيرة على الفكر الماركسي والفكر التقدمي. ولذلك تجب محاربته ومقاومته. وكان من هؤلاء الأساتذة المحترمين الآتية أسماؤهم: طيب تيزيني، محمود إسماعيل، ومحمود أمين العالم (..) وإذا كان محمود إسماعيل قد التزم حدوده نهائيا بعد أن رسمتُ له هذه الحدود خلال محاضرة ألقيتها في الجامعة الكويتية في أواخر الثمانينات، فإن الصديقين طيب تيزيني ومحمود أمين العالم ما زالا يخصان كتابات الجابري بـ”الاهتمام” إلى درجة أن ما كتباه في هذا الموضوع أو من يدور في فلكهما يقترب من ألف صفحة”. (جريدة الاتحاد الاشتراكي، 27/7/1997).

هذا الذي ذكره الجابري، رد عليه محمود إسماعيل في كتابه “هل انتهت أسطورة ابن خلدون؟”، ووصفها بـ”الافتراءات”، وذكر أنه لا صحة لها أبدا، وأما عن رسم الحدود، فقد بيّنها كالتالي: “أما عن وقائع ندوة الكويت، التي أفحمني الجابري فيها وحدد ورسم طريقي، فقد حضرها شهود عيان أجمعوا على سقوط هالة الجابري. لقد قرأ الجابري محاضرته من نص مكتوب كانت تتعلق بموضوع تراثي، استهلها الصديق بحديث عن البدعة والضلالة والنار..الخ، مستعرضا الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة منددا بالأخيرين باعتبارهم “أهل بدعة وضلالة”.. !! لينتهي إلى تأييد الاتجاه الأصولي المعاصر. لقد بُهِت الحضور من توجهات الجابري الفكرية التي جعلته ينهج نهج الفقيه السعودي “بن باز” (…) تقدمتُ بسؤال للمحاضر ـ بعد انتهاء المحاضرة ـ عن تفسير تغيير مواقفه الفكرية، من الماركسية إلى البنيوية إلى الأصولية، فهاج وماج، أرغى وأزبد، متهما إياي بالحرف الواحد [لقد جئت يا محمود لإفساد محاضرتي]..”، لم نقصد بنقل هذا النص معركة الجابري في حد ذاتها، فلو نحن حاولنا أن نستقصي عدد خصومه والحفر والتفتيش في كواليس هذا النوع من المعارك الفكرية لما وسعتنا مجلدات، وكذلك لا يمكن إحصاء الخصومات الفكرية في العصر العربي الحديث، وأغلبها في انتهاء تحليلها تخلص إلى هذا النمط الجدلي. (على سبيل المثال يمكن الرجوع إلى بعض كتب أنيس منصور الذي يروي الكثير من كواليس جيل طه حسين والعقاد).

لم يقف هذا النمط عند حد التراشق اللساني الذي نُحدده فيما يمكن تسميته ب”العنف الرمزي”، بل وصل الأمر إلى حد “العنف البدني” بين مفكرينا الفضلاء الذين يرغبون في إخراجنا من التخلف ويرسمون لنا معالم مشروع النهوض الثقافي الفلسفي، فهذا الفيلسوف عبد الرحمن بدوي يعترف بنفسه أثناء سرده لسيرته الذاتية بممارسة هذا العنف، وفي سيرته هذه من الكوارث الفكرية ما يشبه فيلم الرعب، وأكثر ما يرعب: “الأنــا” المتضخمة لعبد الرحمن بدوي والتي امتدت على طول تاريخ وجغرافية العرب وابتلعت كل المثقفين، يروي في مشهد تراجيدي عن عباس محمود العقاد:”..كان من رأيي أن العقاد يُرحب بالمقالات، فلا علاج له عن هذا الطريق، بل لابد من استخدام العنف معه لأنه لا يردعه غير العنف، وأخذ برأيي اثنان من أعضاء الحزب، أحدهما وهو الذي كان قد أرهب قاضي الإحالة، فتربصا للعقاد وهو عائد إلى بيته رقم 13 شارع سليم في مصر الجديدة، وانهالا عليه بالضرب والصفع والركل، وأفهمـاه أن هذا تأديب مبدئي بسبب مقالين ضد (حزب) مصر الفتاة؛ فإن عاد، عادا إليه بما هو أشد نكالا، وأحدثت هذه “العلقة” أثرهـا الحاسم، فخرس العقاد خرساً تاماً، ولم يعد إلى الكتابة ضد مصر الفتاة..”. (سيرة حياتي/الجزء1).

هل يمكن عقلنة هذا البعد من الجدل الثقافي العربي؟ سأكون مثاليا أو كاذبا لو أنني تطلعت إلى طرح الحلول، وسأكون متعجلا لو أنني رُمت تحليل هذا البُعد ومحاولة فهم علله وأسبابه في ضيق هذا المقال، إلا أنني سأنقل نصًا للفيلسوف لودفيغ فتجنشتين يحمل دلالات مهمة مستفزة، يقول في مطلع كتابه (تحقيقات فلسفية): “مع عودتي إلى الاهتمام بالفلسفة، أي منذ ست عشرة سنة تحتّـم علي الاعتراف بارتكاب أخطاء فادحة في هـذا الكتاب الأوّل [يقصد “مصنف منطقي-فلسفي”]، وقد أعانني على التعرف على هذه الأخطاء ــ بصفة لا أقدر أنا نفسي على تقييمها ـ نقد فرانك رامساي (F. Ramsey) لأفكاري..”.

جديدنا