المرض بابن تيمية!

image_pdf

    الإحالة ضرورة عقلية، وآلية ذهنية تروم تحقيق جملة من الفوائد والنتائج، وهي تتعدد بحسب الخلفية الفكرية التي تُحرّك مستخدمها، فهي تكون استشهادًا غايته الاحتكام إلى مرجعية ذات سلطة معرفية، وقد تكون توثيقا غرضه إثبات حقيقة وكشف عن واقع، وقد تكون مجرد علامة تهدف إلى أن تتلبّس صفةً علمية، وغير ذلك مما يمكن أن تقصده وتهدف إليه، وهذه الأغراض والمقاصد قد تتداخل فيما بينها وقد تنفصل، إلا أن أهم ما يميّزها ويجمع بينها أنها ذات بُعد وظيفي حجاجي هدفه الإقناع، سواء تفطّن صاحبها لذلك أم لم يتفطن.

    لكن هذه الإحالة تتغـيـّر مقاصدها وتتبدّل أهدافها في مجالات وميادين أخرى، ومن أهم هذه المجالات التي تظهر كذلك، في الفضاء السلفي ونقيضه، حيث تصبح غايةً في حد ذاتها، وفي أهم الحالات التي تظهر كذلك في “الإحالة إلى ابن تيمية” ولاءً وبراءً، حبًّا وكراهية، أصالةً وحداثة، مما ينتج عن ذلك إشكال مركزي يتطلّع إلى فهم ظاهرة هيمنة ابن تيمية على الحقل التداولي الثقافي الإسلامي.

    يمكننا أن ننظر إلى هذا الحقل في منظوره التعدّدي، فنلاحظ حقل الغزالي، وحقل ابن رشد، وحقل الفخر الرازي، وحقل ابن عربي، وحقل الشاطبي، وحقل صدر الدين الشيرازي..الخ، أي أن الحقول العلمية تمثّلها شخصيات تُشكّل سلطات معرفية مركزية يتم الاحتكام إليها أو اتخاذها رمزا لتوحيد رؤى هذا الحقل أو ذاك، لكن ما يميّز الإحالة إلى ابن تيمية أنها تتضمّن ما يشبه العُصاب الذي يضطرب من خلاله الجهاز النظري للمثقف المسلم المعاصر، لأنه ما من شخصية علمية مثل ابن تيمية تمّ الإحتكام إليها احتكاما متطرفاً، أو على النقيض تم نفيها واستبعادها وتجريمها والتنظير لرفضها تطرّفاً كذلك.

    يمكن الاعتراض على رأيي بأن لكل خطاب نموذجه النظري الذي يتحدد في شخصية مفهومية تنتج النظريات وتوحّد الرؤى ويكون إليها المرجع، ويمكن الاعتراض أيضا بأن لكل نسق أو مذهب هوية تُشيّده تتجلّى في إمامٍ، وهذا القول سيكون له مُبرّره لو أن الأمر يتعلق بمنظومة معرفية محضة تكون الإحالة إليها من طبيعتها، لكن الامر هنا يتعلق بالإحالة الدينية، أي بتجربة الوقوف مع الوحي وفهمه وتمثّله، لأن الاعتراف بغيبية مصدر الدين وتأكيد هذا الاعتراف بالإحالة إليه هو أهم مقتضيات الدين ومقاصده، لهذا كان خطأ العقل في تحصيل الحقيقة الدينية من النبي أقوم وأحكم من صوابية تحصيل الحقيقة الدينية من غيره، أي أن الأصل في الإحالة الدينية هو الرجوع إلى النبي، لكن بما أن ابن تيمية عنصر داخل الحقل الديني، فكيف نفسّر الرجوع إليه في حسم الأفهام المتعددة للحقيقة الدينية؟

    ونحن في هذا المقال لا يمكننا أن نُحلل بنية هذه الظاهرة (=الإحالة إلى ابن تيمية)، ونعرض عناصرها ونُفسّر علاقاتها، ونُحدّد المفاهيم ونكشف عن المصادر والروافد، لأن حجم المقال فرض علينا التنبيه والتذكير فقط، وكذلك لتركيبية هذه الظاهرة وتعقّدها وتداخل السياسي والديني والاقتصادي والتاريخي والاجتماعي في تشكيلها وتفشّيها.

    لكن أهم تجلياتها تظهر في تضخيم عقل ابن تيمية بحيث يخرق حُجُب الأزمنة الثقافية، حيث يمتد على أزمنة الحداثة، فيظهر هو المُؤسّس لمنطق الاستقراء والمعرفة الامبيريقية (=التحقق التجريبي في المعرفة العلمية)، ويظهر هو المنظّر الحقيقي لنظرية مقاصد الشريعة، بل الأمر يصل إلى النظر إلى كل ابتكار أو إبداع مفهومي حديث على أن ابن تيمية له يد فيه، وإذا لم يكن كذلك؛ يتم تطويع وليّ أعناق كل النظريات والفلسفات وإيجاد مخارج تأويلية لها حتى تتوافق مع آراء ابن تيمية.

    أما على النقيض، فيتم تذويب كل عنف ديني وكل تفجير في التكفير، ويتم تذويب التكفير في مسؤولية فتاوى ابن تيمية، فتنصهر كل أشكال العنف الدينية المعاصرة في بؤرة اسمها ابن تيمية، ويصل الأمر أنه ليس مسؤولًا فقط عن التفجير، بل عن إطفاء كل تنوير ثقافي، وعدوّا للفقهاء والمتكلمين والصوفية والفلاسفة.

    إن ابن تيمية مثل غيره، شخصية تاريخية عاشت مرحلتها وتأطّرت بظروفها الاجتماعية والسياسية والعلمية، تفاعل مع لحظته فاقتنع بحقّانية بعض أفكار عصره ورفض الأخرى، ناضل وخاصم من أجل إيديولوجيته ومصالحها، لا يمكن أن نقول أنه أخطأ أو أصاب لأن التاريخ لا يُحاكَم بثنائية الخطأ والصواب، لكنه ظل وسيظل عالِماً وإنساناً وكائناً زمنياً اجتهد ونظّر وقدّم إمكانات تأويلية للاقتراب من قصدية الدين ومركزيته.

    إنني قد أبني لرأيي هذا ـ الذي عرَضتُه ـ بناءً حجاجيًا متماسكًا ومتسقًا، وأستخدم فيه كل أنماط الاستدلالات، وفي استخدامي هذا أتجنّب كل المماحكات والمغالطات المنطقية، إلا أن ذلك كله لا نفع من ورائه في إقناع الخطاب السلفي ونقيضه بأن ثمة عُصاب مرضي اسمه (الإحالة إلى ابن تيمية)، لكن الشيء الوحيد الذي أعوّل عليه في الإقناع هو “الحدس”، فالمرض بابن تيمية بداهة عقلية لا يجادل فيها إلا مكابر.

    وصفوة القول أن ابن تيمية في الطرح السلفي ونقيضه لا يظهر كوجهة نظر أمام وجهات نظر أخرى لها معاييرها ونظرياتها ورؤاها ومناهجها، ولا يبدو كإمكانية تأويلية تُقدّم فتحًا نظريًا يقترب من مركزية المعنى الديني ويقارب مقاصده ويكشف عن أسراره، فابن تيمية لا يمكن أن يظهر كذلك لأنه مركزية المعنى وقصدية كل خطاب بالنسبة لهذا الطرح، أما بالنسبة لنقيض هذا الطرح فهو ليس هامشًا فحسب، بل خارج كل الدوائر، لأجل ذلك أصبح ابن تيمية ـ بالنسبة للطرح الأول ـ مرجعية علت حتى على المرجعية العليا في الإسلام (= القرآن والسنة)، أما النقيض فيراه نواة تقويضية تهدد كل مقوّمات هذه المرجعية.

    بعد كل هذا أقول: إذا كان النحو منطق اللسان، والمنطق نحو العقل، فالتراث التيمي هو منطق العقل السلفي ونحوُ لسانيات خطابه، فأفكار ابن تيمية بالنسبة لهذا العقل هي آليات قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في التفكير، أما النقيض فهو: السلفية المضادة التي تُحرّم هذا المنطق!

جديدنا