الجسد الأنثوي في المادة الإعلامية؛ مقاربة سوسيولوجية

image_pdf



    من المألوف أن المحدد الأول للمرأة حسب التمثلات الاجتماعية السائدة هو جسدها كعالم مشبع بالدلالات والرموز، إنه على حد تعبير مصطفى حجازي «مرغوب فيه» من حيث هو وعاء للمتعة ومجال لتحقيقها، فكلما كانت المرأة أكثر جاذبية بجسدها كلما ارتفع الطلب عليها، لأن الجمال اللحمي رأسمال الجسد في المخيال الشعبي، ولا قيمة لجمال جسد المرأة وزينته إلا أمام الرجل وحضرته «هاك لغرايب لمرا مكحلا والراجل غايب»1 لأن الرجل هو الذي يضفي عليه الشرعية بواسطة صك نفسه أمام الجسد، فوجود الرجل أمامه هو ما يفسر طغيان البعد الجنسي وتحويله إلى أداة للمتعة، لأن الجسد بتعبير الأنثروبولوجيين الوسيط العلائقي بين الإنسان والعالم والحامل الرمزي لتاريخه وثقافته، فالجسد إذن «بناء رمزي وليس حقيقة في ذاتها، ومنشأ لعدد لا يحصى من التصورات التي تسعى لإعطاء معنى، وسبب طابعها الغريب والشاذ والمتناقض.»2

    وبناء على ذلك يمكن القول إن الفروق القائمة بين الرجال والنساء جاءت نتاجا لعوائد اجتماعية وموروثات ثقافية صيغت ومورست باقتناع، وفق فكر نمطي نمى على يد التنشئة الاجتماعية وكرسته الأسرة، والإعلام بشكل كبير، فتم اختزال المرأة في جسدها  كونها تقوم بأدوار تقليدانية تحيل على أن العلاقة بين الجنسين تدخل ضمن ثنائيات العقل والجسد، القوة والضعف، الأول والثاني، النعومة والخشونة، القوامة والطاعة… لأن أغلب «المواصلات الإشهارية تضع في المشهد الإعلامي رجالا ونساء مستحضرة علانية الانقسام والتراتبية التقليدية للجنسين.»3 على اعتبار أن الإعلام هو التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير ولروحها وميولها واتجاهاتها كما عرفه «أوتوجروت» الألماني.

    يتبين ذلك جليا في كون الإعلام يظهر الذكور في المواقع القيادية والسياسية الهامة، في حين تختزل المرأة في المادة الإعلامية في دورها التقليدي كالبيت ورعاية الأطفال، بطريقة مهمشة ومتدنية بالرغم من أهمية دور الأمومة ورعاية الأطفال، لأن الإعلام يستغل نفس الحركات والأفعال والكلام المطقسن الذي نستعمله في نفس الوضعيات الاجتماعية اليومية، وبنفس الغاية من خلال جعل كل صورة أو فعل تم عرضهما إعلاميا قابلة للقراءة والتأويل أو بالأحرى يسعى الإعلام إلى ترسيخ وتكريس ما كان موجودا، بغاية تحقيق كل الأهداف التي رسمها مسبقا سواء تعلق الأمر بالحصول على أكبير عدد من المشاهدات، أو البيع والشراء…

    عندما يشاهد الأطفال في  شاشات التلفزيون أو الأنترنيت أن المناصب الهامة للرجال خصوصا على مستوى الوضعيات السياسية المرتبطة بالزعامة والقرار والسلطة، في حين المرأة تحصر في مواقف متدنية تسلع جسدها بغرض الترفيه والتسلية، وكذلك استعمال الجسد الأنثوي لترويج وبيع وشراء المنتجات والخدمات، واستنادا على نظرية النمو المعرفي سيتشكل لدى الأطفال بناء على ما سبق، على مستوى الإناث أن مكانة المرأة متدنية ومهمشة وقيمتها تستمدها من كونها جسد، في مقابل ذلك على مستوى الذكور أن مكانة الرجل سامية ومرتفعة في المجتمع، مما يفسر أن المادة الإعلامية تلعب دورا مهما إلى جانب القنوات التنشئوية كالأسرة باعتبارها ذاكرة المجتمع والمدرسة كعقل له، في خلق استعدادات لقبول صياغات وقوالب نمطية جنوسية حول المذكر والمؤنث في الحياة اليومية، مما يعمل على تكوين الأنماط السلوكية والأدوار الاجتماعية الجندرية المنمطة لدى الأطفال.

    والأخطر من ذلك أن الإعلام يحصر اهتمامات المرأة إعلاميا في تسويق الأغاني من خلال الفيديو كليب الذي يشوه صورة المرأة ويحصرها في كونها جسد فقط، من أجل خلق استهلاك تافه عديم القيمة كونه لا ينتمي إلى السياق الواقعي المعاش، مما يجعله يباشر عنفا رمزيا على الذكور والإناث على حد السواء، لأن فعل الإعلام المنمق بواسطة الفيديو كليب كميكانيزم للتنميط ما هو سوى طقسنة مفرطة خارج السرب المعتاد.

    إن دور الموضة وشركات صنع مواد التجميل تعمل على تنميط المرأة بشكل تسليع جسدها كمتاع نجده في المجلات النسائية، الإشهارات، المسلسلات… و عندما يغلب جانب الإشهار وتتأثر به المرأة وهو ما ينعكس في مظهرها الخارجي، هنا تكون بمثابة تلك السوق الممتازة لترويج منتجات استهلاكية، لأن أغلب النساء يعتمدن على ذوقهن على مدركات الرجال هذا ما يجعلهن مستعدات لما تروج له السينما والمحطات التلفزيونية والإشهارات، حيث يتم استعراض الجسد الأنثوي في السينما والتلفزيون اللذين يعلنان عن الملابس الشفافة والصور العارية بألوان وأشكال مغرية، وكذلك أنواع المأكولات والمشروبات التي تساعد المرأة في الحصول على الوزن المثالي ومزيلات الروائح وأصباغ الشعر وأدوات الاستهلاك المنزلية… كل هذه التمجسدات لديها القدرة على التلاعب بمظهر المرأة، مما يجعلها تلهث وراء الجديد والمبتكر لكي تغير من جلدها وشكلها ما بين الشفط والنفخ والشد والنتف، بعد أن جعلتها الحداثة مجرد كائن جنسي قابل للاستهواء والاستشهاء.

    وهذا يجري تنميط جسد المرأة في صورة ذلك النظام القار للاستعدادات والمواقف الذي يطلق عليه بورديو «هابيتوس» فالجسد يوجد داخل الحقل الاجتماعي وفي نفس الوقت أن الحقل الاجتماعي يكون أيضا داخل الجسد، فيصبح عند المرأة أنا أعلى سيكولوجي آخر لتجاربها الحاضرة في العالم يفرض عليها العيش وفق قالب نمطي مترسخ في العقل الذي يعكس في الجسد.

    فمن أجل أن يحقق التلفزيون أكبر عدد من المشاهدات، أصبح همه عرض الجسد الأنثوي كوسيلة لجذب المشاهدين للدعاية والإعلان، وكذلك الإغراء الجنسي، فكثيرا ما تظهر المرأة وهي عارية، وفي حالات تبرز مفاتنها ووضعيات فيها إثارة وإغراء جنسي. والأبشع من ذلك كله تجارة الجنس الرخيص الذي يمتلك إنسانية المرأة ويجعل منها مجرد سلعة للمتعة الرخيصة، وكذلك أفلام ومقاطع ومجلات «البورنو غرافي» التي تروج الدعارة على أنها ثقافة رفيعة، وبهذا أصبحت المرأة الرخيصة تسعى إلى استغلال جسدها ومفاتنها الأنثوية حسب معادلة العرض والطلب في السوق التجارية، الذي هو سوق ذكوري وأنثوي على حد السواء.

    وحين يصبح الجسد الأنثوي سلعة من السلع الثقافية يفقد مواصفاته الإنسانية ويدخل في عداد البضائع التجارية ووسيلة للاستهلاك، مادام عنصر إغراء وجذب وترويح للبضائع، مما يؤدي إلى خلق ثقافة مصنعة تجعل المرأة دمية مثيرة فحسب، لإغراء المستهلك ذكرا كان أو أنثى، وبهذا لا تصبح المرأة كما تقول سيمون دي بفوار «جوهرا أو طبيعة أبدية، وإنما تتحول إلى مجرد تاريخ.»4

    إن هذه الثقافة الموجهة نحو تهميش المرأة تعمق النظرة الدونية إليها، وتحصرها في دائرة كونها مخلوقا سطحيا وبسيطا لا هدف له سوى تلبية رغبات الرجل، كما تركز على مجموعة من الصور النمطية التقليدية المرأة التي تعكسها كمخلوق ناقص، يفتقد القدرة على التفكير العقلاني وصنع القرار والعمل القيادي، بالرغم من الإنجازات التي حققتها المرأة على أرض الواقع.

    كما أن الجسد الأنثوي يتمظهر في المادة الإعلامية كأداة رخيصة تستغلها الشركات في إنتاج بضائع منخفضة التكلفة، رخيصة الثمن، يمكنها الدخول في منافسة في الأسواق العالمية وتحقيق أرباح متراكمة، وفي ظل العولمة الليبرالية الجديدة يجرى استخدام النساء بعقود عمل مؤقتة ووفق شروط محددة، وبذلك تصبح المرأة أداة رخيصة لإنتاج أوسع.

    ونجد المرأة في وسائل الدعاية والإعلام بوصفها قوة ضاربة تتحكم في الإنتاج وإعادة الإنتاج الاقتصادي والثقافي وتوجيه مساريهما مع أن أغلب ضحاياهما النساء، وذلك لأن الإعلام يضع المرأة في صورة ثلاثية الأبعاد: «الزبون والسلعة والأداة في وقت واحد»5 فالمرأة هي الزبون الأول المستهلك للبضائع خصوصا التي تنتجها شركات التجميل، التي تقدم جميع أنواع الإغراءات، مما يجري رسم صورة للأنثى الأبدية المغرية دوما ذات الفتنة الخالدة التي لا تصيبها الشيخوخة، ويظل الإغراء فعالا ما دامت تستخدم أدوات المكياج.

    وأخيرا رغم مشاهدة بعض مظاهر المقاومة المضادة للصورة النمطية عن المرأة في المادة الإعلامية على أنها جسد مثل وضع الحجاب في البرامج التلفزيونية والأفلام، التي تحمل معاني رامزة أن للمرأة كيانا يحميها وكاحتجاج على النظر إليها كمجرد أنثى أو جسد، أصبحنا نلاحظ فنون التجارة والموضة أخذت تعمل على استعادة هذا اللباس المحتشم وإفراغه من مدلوله بتحويله إلى الأكسسوارات التي تزيد المرأة أناقة وجمالية كرسالة أنها جسد ولا شيء غير الجسد، هذا ما يبين قدرة الرأسمالية المتوحشة في اختراق التمثلات والمعايير والقيم التي يعيش عليها المجتمع، ومن هنا يمكن بسط التساؤلات التالية: هل فعلا المرأة جسد كما يروج الإعلام؟ ولماذا كل هذا التعزيز للصور النمطية من طرف المادة الإعلامية؟ وهل اللحظة اليوم تستدعي ربط المرأة بالجسد؟ هل مخافة من أن تتحول المرأة من كائن مستلب إلى سلطة رمزية تخلخل السائد داخل المجتمع؟ لماذا لا يتم ترويج أن المرأة ذات حر واعية تفكر وتقرر؟ هل خوفا من أن تتقوى شخصيتها وتواجه التسلط والتسيد؟

___________________

قائمة البيبليوغرافيا:

1-القرشي يوسف، المثل الشعبي وإنتاج النوع الاجتماعي، المحمدية: بحث جامعي بإشراف الأستاذة حكيمة لعلا، شعبة السوسيولوجيا، 2018.

2 -دافيد لوبروتون، أنثروبولوجيا الجسد، ترجمة: محمد عرص صاصيلا، بيروت: المؤسسة للدراسات والنشر والتوزيع، 1997.

3-دافيد لوبروتون، سوسيولوجيا الجسد، ترجمة: عياد ابلال، ادريس المحمدي، القاهرة: روافد للنشر والتوزيع، 2014.

4-جارودي روجيه، في سبيل ارتقاء المرأة، بيروت: 1982.

5-النقاش فريدة، العولمة والمرأة والإعلام، العرب: 2001.

جديدنا