التفكير بطريقة مغايرة سبيل لعلاقة نوعية مثمرة بالتراث والحداثة والقرآن

image_pdf

الانطلاقة الحضارية النوعية لا يمكن أن تتحقَّق إلا بتراكم مجهودات أجيال من المفكِّرين والعلماء والباحثين الذين حاولوا ويحاولون بطرائق مختلفة ومتعدِّدة اقتراح الحلول التي من شأنها أن تحرّرنا من تبعيَّة دامت قرونا طويلة سواء لماضينا الذي انبهرنا به فأصبحنا عالة عليه. أو أن تحرِّرنا من استخراب (استعمار) نهب الوطن بكل أبعاده، مما جعل خروجه لم يكن إلا حلا لمواصلة نهب دائم، بشكل غير مباشر، فكرَّس تخلفنا في شتى المجالات وتبعيَّة دائمة منعت عنا أن نكون سادة أنفسنا.

وضع مؤلم نابع من انبهار بماضينا أو انبهار بالآخر الغربي، وضع زرع فينا عقلا مقلّدا وسجينا لهذا أو ذاك، غير قادر على إبداع سبل مغايرة تبني وطنا سيد نفسه، بل زرعت فينا جماعات متعدِّدة متصارعة إلى حدّ التنافي والإقصاء. فأصبحت مشكلتنا كيف يتخلَّص بعضنا من بعض عوض أن تكون مشكلتنا كيف نتخلَّص من التخلُّف الذي نحن فيه وكيف نبني وطنا يبدع في كل المجالات ومحقّقا إنسانية المواطن بكل أبعاده.

هذا الوضع الذي سعت أجيال لتغييره دون نتائج نوعيَّة، كيف يمكن لنا تشخيصه بدقَّة أكثر كي يمكن لنا الفعل فيه؟

فكما هو معلوم أن سوء التشخيص يؤدِّي إلى الخطأ في العلاج ولهذا فحسب ظني علينا قبل كل شيء البحث عن التشخيص الأسلم والذي يمكن أن يكون انطلاقة لحلول ربما تساعد على تلمُّس السبل المؤدّية إلى التحرُّر الجذري من المعيقات والتوجُّه النوعي نحو الحلول.

أين يكمن الخلل في المجهودات السابقة التي حاولت المساهمة في انطلاقة حضارية؟ فهل يتعلَّق الأمر بخلل في التشخيص أم في التواصل أم في الحلول المقترحة؟ هل أن الخلل يعود إلى كل هذا، أي في التشخيص وفي التواصل وفي الحلول؟ أم أن الخلل يتعلَّق بأمر آخر يمكن أن يكون هو جوهر الخلل؟

عندما نتأمَّل جيدا في هذا الكم المتراكم من المجهودات في كل المجالات، والتي لم تتوصَّل إلى تغيُّر نوعي يرتقي بنا إلى أن نكون سادة أنفسنا، نميل إلى أن الخلل يكمن أساسا في طرائق تفكيرنا وفي نوعيَّة علاقتنا بالتراث والحداثة والقرآن، أي في نوعيَّة علاقتنا بواقعنا وبعصرنا (بزماننا).

إنَّ الخلل في عقولنا أساسا، هذه العقول التي تَكرّس فيها داء الانبهار: الانبهار بالماضي والانبهار بالآخر! هذا الداء الذي جعل عقولنا عقولا مُقَلّدة لا تستطيع الخروج أو التحرُّر من سجن التراث أو من سجن الحداثة أو من سجن الإيديولوجيا.

ما المقصود أن الخلل يكمن في طرائق تفكيرنا؟

عندما نلقي نظرة على ما هو سائد عموما من محاولات متباينة من مختلف الخلفيات الفكرية نجد أن القاسم المشترك الذي حال بينها وبين التفكير التنويري هو كون هؤلاء جميعا لم يتحرَّروا من خلفياتهم الفكرية: فالتراثي نجد علاقته بالتراث علاقة قائمة على التقليد، إذ أنه يفكر بالتراث ولا يفكِّر فيه لذلك يبقى سجينا له غير قادر على تجاوزه، فكل ما يقوم به هو محاولة إسقاط التراث على حاضره وعلى عصره، إذ أنه  لم يقم في حقيقة الأمر إلا بإعادة إنتاج ما أنتجه السابقون وبذلك لا يزيد حاضرنا إلا بؤسا و تخلفا، وهذا هو الفرق بين أن نفكِّر بالتراث و بين أن نفكِّر فيه.

فطريقة التفكير هنا فارقة، فعندما نفكِّر في التراث نستطيع أن نقيّمه فنستفيد ولكننا نتجاوزه لأننا نفكر من خلال عصرنا لا من خلال عصر من سبقونا. وبالتالي يمكن أن تكون لنا إضافة ويمكن أن نرتقي إلى تفكير تنويري.

ونفس الشيء بالنسبة للحداثي، فكل ما يقوم به هو محاولة إلحاقنا بالحداثة الغربية أي إنه يسعى لأن نكون مثلهم في كل شيء فهو يفكِّر بالحداثة ولا يفكر فيها مما يجعله منبتّا عن واقعه بعيدا عن مشكلاته الخاصَّة[1].

نفس الشيء بالنسبة للماركسي الذي يعتقد أن الماركسية نظرية علمية فيجعل منها قوالب جاهزة يحاول من خلالها قراءة التراث والواقع والمستقبل ممَّا يجعله لا يختلف لا عن التراثي ولا عن الحداثي، فهو الآخر يفكِّر بالماركسية ولا يفكِّر فيها فيبقى حبيسا لها لا يستطيع تجاوزها فيبقى غريبا عن واقعه وعن عصره[2].

هكذا نكون أمام عقول مقلِّدة غير قادرة على الإبداع ولا على أن تفكِّر تفكيرا مغايرا يرسم طريقا للأمَّة كي تصبح سيدة نفسها.

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل التفكير بطريقة مغايرة يضمن لنا فكرا تنويريا يقود إلى مرحلة الفعل التنويري؟

عندما نلقي نظرة تاريخية على تجارب سابقة نجد أن هذا الأمر ممكن إذا توفَّرت شروط معيّنة وغير ممكن إذا غابت هذه الشروط: التفكير بطريقة مغايرة يقود إلى الفكر التنويري ولكن هذا غير كافٍ للوصول إلى الفعل التنويري إذا لم تتوفَّر الشروط المناسبة، أسوق هنا مثالين من تراثنا الفكري في عصرين مختلفين كي ندرك من خلالهما كيف أنَّ التفكير بطريقة مغايرة في ظروف تاريخية قاد إلى التفكير التنويري وإلى الفعل التنويري. وفي ظروف تاريخية أخرى، التفكير بطريقة مغايرة قاد إلى التفكير التنويري ولكنه لم يتحوَّل إلى الفعل التنويري لعدم توفُّر شروطه.

المثال الأول يتعلَّق ببداية نشأة حركة الاجتهاد الفقهي خاصَّة في المدينة وفي العراق في فترة الخلافة العباسية، حيث تكونت مدرستان فقهيتان:

المدرسة الأولى في المدينة حيث تضخَّم الحديث على حساب الرأي بإمامة الإمام مالك (93 ه/711 م _179 ه/795م).

المدرسة الثانية حيث تضخَّم الرأي على حساب الحديث بإمامة الإمام أبو حنيفة النعمان (80 ه/699 م _150 ه/767 م).

هذا الوضع جعل الإمام الشافعي (150 ه/ 767 م_ 204 ه/820 م) وهو تلميذ الإمام مالك يفكر بطريقة مغايرة من أجل تنظيم عملية الاجتهاد، فوضع مبادئ الاجتهاد أو ما يعرف بمبادئ علم أصول الفقه التي تنظِّم كيفية استنباط الأحكام.

هذا الكتاب وجد جيلا أمكنه التفاعل معه وتوسيع الاستفادة منه ممَّا أدَّى إلى نشأة وتطور علم الفقه بطريقة منظَّمة اعتمادا على قواعد ومبادئ علم أصول الفقه وسمح بنشأة مدارس في هذين العلمين، استفاد منهما العالم الإسلامي فترة زمنية محترمة إلى أن أغلق باب الاجتهاد وتعطَّلت العقول وساد التقليد.

 إذن فشرط الانتقال من مرحلة التفكير التنويري إلى مرحلة الفعل التنويري تتطلَّب وجود مناخ ثقافي تنويري يقوده جيل متنوِّر يتمتَّع بعقل مهيأ للإبداع والقدرة على الإضافة وهذا ما كان سائدا في فترة ازدهار الخلافة العباسية.

فكان للفقه الإسلامي محاولات متكرِّرة من طرف الفقهاء لمواكبة التغيّرات الاجتماعية والحالات المتجدِّدة في حياة الأمَّة الإسلامية. إلا أن الحضارة الإسلامية عندما أشرفت على الأفول والتقهقر كان الفقه الإسلامي هو الآخر قد توقَّف عن النمو وركن الفقهاء إلى إنتاج سابقيهم وانغلق باب الاجتهاد فتعطَّلت الأذهان عن الإبداع وأصبح المجتمع في وادٍ والفقه في وادٍ آخر. بل بلغ الفقه الإسلامي درجة من التقليد والجمود أفزعت الإمام أبو إسحاق الشاطبي المتوفي سنة 790 ه/1388 م جعلته يفكِّر بطريقة مغايرة لما هو سائد ويكرِّس حياته في سبيل تخليص المسلم من التقليد والكسل الذهني ومن أجل الوصول إلى صيغة جديدة في التعامل مع الشريعة تكون في مستوى مجابهات تحديات إشكالات عصره، فأنتج كتابه (الموافقات في أصول الشريعة) وكتابه (الاعتصام) وأبدع علما جديدا هو علم المقاصد.

ويمكن أن نقول باختصار إنَّ فكر مقاصد الشريعة عند الشاطبي هو وعي بخطورة الوقوف عند ظاهرة النصوص، وعي بفساد تعامل معاصريه مع الشريعة وخطورة هذا التعامل على تقدُّم المجتمع وتطوّره. وهذا الوعي المتبلور لدى الشاطبي صادر أساسا عن ظروف عصره. وفكر المقاصد ما هو إلا حوار أو تفاعل مزدوج مع الواقع من جهة ومع نصوص الشريعة من جهة ثانية.

ولكن هل يمكن أن يكون فكر مقاصد الشريعة الذي اتى به الشاطبي وخصّص له جزءا كاملا من كتابه الموافقات استجابة إيجابية لإشكالية عصره؟ أي هل استطاع الشاطبي بفكره الجديد أن يؤثر على مجتمع يجعل معاصريه يستجيبون لمشروعه ويطبقونه من أجل إنقاذ مجتمعهم من التخلُّف والجمود والانحطاط؟ و إن لم يحصل هذا التأثير أيعود ذلك لفساد في فكر الشاطبي الجديد أم يعود لخصوصيات اجتماعية طبعت تلك الفترة من التاريخ الإسلامي؟ ويمكن أن نوضح السؤال إذا طرحناه بالشكل التالي: فهل كان فكر المقاصد كما قدمه الشاطبي في كتابه الموافقات دون المستوى الفكري والاجتماعي السائد في وقته ومتخلف عنه، أم أن هذا الأخير هو المتَخَلَّف عن فكر الشاطبي إلى درجة لم يستطع إدراك ما يحمله من حلول واستيعاب ما فيه من جديد؟

من الواضح أن الإجابة هي كون المستوى الفكري والاجتماعي السائد في عصره متخلِّف عن فكر الشاطبي. وهذا التفكير بطريقة مغايرة لدى الشاطبي والذي أنتج فكرا تنويريا نوعيا ولم يُثمر في عصره، سببه هو عدم توفر الشروط التي يمكن أن تحقِّق الانتقال من مرحلة التفكير التنويري إلى مرحلة الفعل التنويري، لم يتوفَّر الجيل الذي يمكن أن يُفعّل هذا الفكر التنويري كما حصل مع الإمام الشافعي الذي التفَّ حول فكره جيل بل أجيال في فترة ازدهار الحضارة الإسلامية.

وإذا انتقلنا إلى عصرنا هذا نتساءل: ما هي الشروط التي يمكن أن تُوفِّر في نفس الوقت الفكر التنويري والفعل التنويري؟ إنّ الإبداع والتفاعل المبدع لا يمكن أن يحصل إلا عندما يُربَّى جيل يتوفر على مؤهلات تمكِّنه من ذلك. وهذا لن يحصل إلا إذا قمنا بإصلاح المنظومة التربوية التعليمية التي تُعتبر المسؤول الأساس في تكوين الأجيال المبدعة. ويمكن باختصار في هذا المجال أن نشير إلى ثلاث ركائز أساسية لا يمكن لأي منظومة تربوية تعليمية أن تكون مثمرة ومنتجة لجيل مبدع إن خلتْ منها. وهي أن تكون المنظومة التربوية التعليمية تهدف إلى غرس الثقة في الذات وغرس قيم أخلاقية وغرس مهارات عقلية. إن برامج التربية والتعليم هي المسؤولة عن تربية الأجيال، فعندما تكون هذه البرامج تُدرّس بلغة أجنبية وتزيح اللّغة العربية عن كل المواد العلمية تكون قد أرسلت رسالة سيئة في نفس المتلقي مضمونها أن لغتنا قاصرة على مواكبة المعارف العلمية. وأكثر من ذلك فعندما تغيب العناصر المشرقة من حضارتنا عن البرامج في مختلف المواد الإنسانية والعلمية تغيب معها الثقة في الذات وينجر عن ذلك الانبهار بالآخر وتقزيم الذات، فنزرع بذلك في ذواتنا رغبة تقليد الآخر “المتفوق “.

لذلك فإذا أردنا ان نربي جيلا يثق في إمكانياته وقدراته فعلينا أن نزرع فيه الثقة في الذات وبذلك نخطو خطوة نحو التفكير التنويري.

أمَّا الركيزة الثانية في أي منظومة تربوية فهي تتعلق بغرس القيم…دون قيم لا ننتج جيلا فاعلا إيجابيا؛ فالجيل الذي لا يتمتَّع بقيمة الصدق والأمانة وحبّ الآخر والفضيلة أي الجيل الذي يكون غير منفتح على القيم الكونية والقيم الخاصَّة بثقافته لا يرجى منه خيرا كثيرا في سلوكه الاجتماعي وفي عمله وفي كل مجالات الحياة.

أما الركيزة الثالثة التي يجب أن تتوفَّر في المنظومة التربوية التعليمية تتعلَّق بغرس مهارات عقلية: المهم في البرامج ليس الكم بقدر ما يهم الجانب الكيفي وهذا ما يمكّن الطفل في كل مراحل دراسته من اكتساب مهارات عقلية تمكنه ألا يكون في الدرس متلقيا بقدر ما يكون مفكّرا يتمتَّع بنشاط ذاتي في التعامل مع مختلف الدروس والبرامج. وبذلك فعندما ينتقل إلى الجامعة يكون طالبا باحثا وليس متلقيا. لماذا؟ لأن البرامج علمته كيف ينجح في الحياة وليس كيف ينجح في الامتحانات فقط.

هذه بعض الشروط التي يمكن عند توفُّرها ينمو جيلا يمكنه أن يفكر تفكيرا تنويريا ويمكنه أن ينتقل إلى الفعل التنويري.

وهكذا يكون التفكير بطريقة مغايرة سبيلا إلى قراءة تنويرية للدين وللتراث وللحداثة وللقرآن… إلا إنَّ لُبّ هذه القراءة التنويرية هو أن نفكِّر في الدين وفي التراث وفي الحداثة ونتخلَّى تماما عن التفكير بالتراث وبالحداثة، أمَّا القرآن فإننا نفكِّر فيه سعيا منّا إلى أن نفكر به وهو سعي دائم ومستمرّ، لأن القرآن كتاب مفتوح ليس له حدود.


.  زكي نجيب محمود، “تجديد الفكر العربي” (يعبر المؤلف في هذا الكتاب عن أزمة المثقّف العربي الحداثي).[1]

 2. دكتور طيّب تيزيني، “مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” (يعبر المؤلف في هذا الكتاب عن هذا السلوك. الماركسي)..[2]

جديدنا