مفهوم العقيدة الدينيَّة من منظور مباحث المقارنة بين الأديان

image_pdf

تتناول المباحث العامَّة للفلسفة نظرية المعرفة، التي تشير في الفكر الديني إلى موضوعات النبوّة، والوجود المطلق، وعلاقته بالوجود النسبي ومسائل القدم والحدوث، والجوهر والأعراض والمعرفة والخلاص والخلود، والثواب والعقاب، والخير والشرّ والفضيلة والرذيلة..

 فالموضوعات واحدة في الفلسفة والدين رغم أن للفكر الديني مصطلحات أسوة بمصطلحات الفلسفة، وتتداخل الاثنين معا.

 ويشمل الفكر الديني، أيضا، الله ذاتا وصفاتا وأفعالا، والوحي والفلسفة والإيمان والعقل..[1]

 إنَّ العصر الحديث، يدعو إلى التساؤلات الشائكة بسبب تضارب الأقوال، والأفعال وخواء النفس من جراء الأفكار والتعطيل، وأسفرت هذه الحالة من الافكار والنفي إلى اتِّجاه جديد يتوق إلى العلم بحركة الوجود.. من هنا جاء تركيزنا على العقيدة فهي التي تفتح الأبواب الجديدة، وتلتمس الطريق، ولا تقف عند الغاية التي لا طريق بعدها.

 لقد لجأت الحضارة الغربية مفكّريها إلى محاولات جديدة في مسألة العقيدة تدفعهم إلى استشراف آفاق جديدة، نحو الغاية القصوى.. وحتى نعرف هذه الوجهة على بصيرة علينا أن نعرف معنى العقيدة الدينية عندهم، لكي نعرف ما يطلبون، ومن أين يطلبونه..[2]

 لقد بحث المشتغلون بالدراسات الدينية في المقابلة بين العقائد والعبادات، منذ أقدم العصور وفسَّروا العقيدة الدينية بأنها طريقة حياة وما يملأ النفس من مشاعر…

يرى الفيلسوف وليام جيمس (1842-1910) أنَّ العقيدة إيمان بالبقاء مرهون بقوة وراء الظواهر الكونية، ويساعدنا النظر في الديانات المقارنة، كي نعلم أن الروح الدينية لا تكون واحدة عبر العصور، ولكنها تحتوي رغم ذلك على بعض العناصر المشتركة، فلا يزال الشعور “بالقداسة” كامنا فيها في قرارة كل عقيدة دينية..، كما يدخل في كل ديانة نزوع بالتوضيح والتفسير والإدراك، لأن الإنسان يعي أنه محاط بقوة غيبية..

إلا أن الشعور بالقداسة هو أعمق الأسس في عناصر كل ديانة…

وعن طبيعة الاعتقاد، يقول الأستاذ ” جوردن البورت”، في كتابه الفرد وديانته، بإنه ينطوي على ثلاثة أطوار؛ فترة التصديق الساذج يصدِّق فيها الطفل حواسه، وخياله، وما يسمعه بغير تمييز، وبقاء هذا التصديق الساذج معه مدى الحياة، وفي الغالب يكون ملازما للعقول التي توقَّف بها النمو دون التمام…، أو يكون مقصورا على المسائل التي تحيط بها الجهل المطبق، وتسلَّط بها قدرة قوية الأثر..

الطور الثاني، يأتي بعد هذه المرحلة، فإن الشكوك تطرق عقل الإنسان، من جميع الأبواب المتقدِّمة وهي جزء متَّصل من كل تفكير مفهوم، وليس في وسع الإنسان أن ينشئ له عقيدة قائمة على الملاحظة، والتفكير ما لم يواجه  النقائص التي يشتمل عليها كل عرف مسموع…

 الطور الثالث هو مرحلة النضج التي يتَّسم بها كل تفكير مفيد ويسأل “جوردن” هل الاعتقاد والإيمان شيء واحد؟ ويجيب بأن الكلمتين تستخدمان أحيانا بمعنى واحد، وفي بعض المواطن تعبِّر عن معنيين مختلفين، لأن التسليم غالب على الإيمان، أمَّا الاعتقاد، فيقترن أحيانا بمعرفة بعض الأسباب، ولو من قبيل التقدير، والترجيح..

والإيمان اشد شعورا من الاعتقاد لأنه يشعر أن الثقة أقوى، ونتيجة الرهان نفيس ..[3]

 فالشعور الديني يمتزج بخوالج النفس، وأشواقها لأن النفس الإنسانية تتَّجه إلى الخالق، في دعائها وصلواتها طلبا للهداية من وراء العقيدة، والإيمان…

وجملة القول إنَّ العقيدة، تلتمس معنى الروح الأعلى الأكمل الذي يستجيب للمضطر إذا دعاه.. وصفاته الأساسية السمو والكمال، والاستجابة، وهي العناصر التي بها قوام الفكرة الدينية..، كما أن فكرة الكمال المطلق توحي بالجلال والجمال.. وتجعل الإنسان يتَّصل بالخالق ليفقه مشيئته ويطبق فرائضه، ليظفر بأرفع فضائله، ويقتبس من أنوار عرفانه، ويصلِّي ابتغاء مرضاته والتماسا لعنايته، وبهذا يحقِّق أوفى وأرفع حظ من الصلات التعبّدية الروحية.. ومعرفة الحقائق النورانية الأبدية..، واليقظة بمعاني الحق والعدل والجمال وكرامة الحياة…

ويتبيَّن من الآراء المتقدِّمة أن الإيمان والاعتقاد قوام الرجاء، وبرهان على وجود قوَّة عليا مدبِّرة لما وراء عالم الغيب والمجهول..، ومن ثم فإنَّ العقيدة قوَّة مطلوبة، لا يستغنى عنها، ولا يطاق الفراغ منها..،[4] فدواعي الإيمان والبحث عن مسوغات التدين والاعتقاد، أرجح عند علماء المقارنة بين الأديان من دواعي الشك والإنكار..، ممَّا يدل على تحوُّل النظر من النقيض إلى النقيض..

 فحكمة القصد والتدبير جعلت من مذهب العلماء في العصر الحديث أقرب إلى مذاهب، وبراهين المؤمنين ..[5]، وغني عن البيان أن العقيدة التي تهيمن على النفوس، هي على التحقيق أقوى في العقول والضمير، ذلك أن عقائد القيم الإنسانية تقف بصاحبها  دون الغاية الوافية من العقيدة، لأنها تتركه في الكون كله بدون سند يطمئن إليه، ولا تتجاوز الكون، ما لم يكن لوجوده معنى أصيل مرتبط  بالوجود الشامل بجميع الموجودات.

 وعقائد القيم الإنسانية، تقف دون الغاية، حتى في المشاهدة المحسوسة، التي لا خلاف عليها.. [6]

 ولا مرية، أن الخلو من العقيدة فقر في الشعور وشذوذ، على سواء الخلق ما لم يكن له اعتقاد بما فوق الطبيعة متجليا في إيمان المعرفة وإيمان التسليم.. فإذا عجز  عن استلهام عقيدة دينية تهديه سواء السبيل فتلك آية الفناء، وإفلاس الحياة والأحياء…[7]

لقد بحث علماء المقابلة بين الملل والنحل، ما توحي به الشعائر والعبادات من معاني دلالية، وقيم ضابطة وهادية تؤسس في الضمائر، الإيمان بالواجب، وتبعث على الثقة والطمأنينة، والإعراض عن القبح والنقائص، ومعرفة كيفية تزكية النفس…

 فشعيرة الصلاة التي هي أصل من أصول الديانات، ورأس القربات، وعماد كل عقيدة دينية..، يقول الإمام الغزالي في هذا المقام بأن الله، رفع الحجاب فرخص للعباد بالمناجاة بالصلوات، وذكر في بيان أسرار الصلاة ومعانيها الباطنية التي تتم بها، فهي حضور القلب والتفهُّم والتعظيم، وربما يكون القلب حاضرا مع اللفظ، ولا يكون مع معنى اللفظ..، فاشتمال القلب على العلم بمعنى اللفظ هو الذي نسميه بالفهم… [8] .

كما أن ألكسي كاريل ) Alexis Carrel 1873-1944) الطبيب الجرّاح كتب رسالة حول الصلاة  (la prière) نشرت  سنة 1944  كان من مقرراته في هذه الرسالة أن نفع الصلاة قد ثبت له علميا، كما أثبتت التجارب الطبيعيَّة وأنه لا فرق بين صلاة الإنسان لنفسه أو لغيره، ما دام صادق النية في الحالتين.. ويردّ (لفيردلودج) وهو من أشهر علماء الرياضة والطبيعة، على القائلين، بمخالفة الصلاة للسنن الكونية، بقوله بإنهم يتوهَّمون، ذلك لأنهم يحكمون على الصلاة حكمهم على ظاهرة طبيعية، خارجة عن حدود الكون ولكنها في الواقع ظاهرة كونية .

يحسب حسابها في أعمال الكون، كما يحسب حساب سائر الحوادث التي تقع في الحياة بغير صلاة…، وإذا كانت الصلاة تربية نفسية، فلماذا يعترض المعترضون، أليست سببا في تحقيق بعض الحوادث، كما تسببها كل تربية، يتم بها استعداد الإنسان لغاية، من الغايات؟ [9].

الواقع أن الصلاة بمعنى الدعاء الموجَّه إلى الملك الديان الصمد، رفيع الدرجات، ليس كمثله شيء وهو فوق العرش وفوق كل شيء العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورين في قبضته…

 وهو مع ذلك قريب، من كل موجود…، تعالى أن يحويه مكان كما تقدس أن يحدَّه زمان.. منزَّه في صفات- كماله، ومستغنيا عن زيادة الاستكمال، وأنه في  ذاته معلوم الوجود بالعقول، وأنه المتفرِّد بالخلق والاختراع المتوحِّد بالإيجاد والإبداع، خلق الخلق وأعمالهم وقدَّر أرزاقهم وقدَّر آجالهم لا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور، لا تحصى مقدوراته ولا تتناهى معلوماته، يعلم السر وأخفى بعلم قديم أزلي، ولا يغيب عن رؤيته  مرئى وإن دق..

 من أحب معرفة أسرار الربوبية فليلازم باب الله بالمحبة والصدق والإخلاص، والتعظيم والحياء والامتثال والمجاهدة والإقبال بكنه الهمَّة، والتعرُّض لنفحاته والسعي فيما يرضي الله ومن أخلص وجاهد في طاعة الله أكرمه بالتوفيق والهداية لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ومن شكر نعمة الله أكرمه الله بالزيادة لقوله تعالى ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) والله يحب الصابرين ( إنَّ الله يحبّ الصابرين) (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْر ِحِسَابٍ) ومن تاب واستغفر تاب الله عليه وغفر له. إنه يثبت عباده على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم، إذ لا يجب عليه فعل ولا يتصوّر منه ظلم، ولا يجب لأحد عليه حقّ، وإنَّ حقَّه في الطاعات واجب[10].

 على ضوء ما تقدَّم من الصفات المقرَّرة في قدسيَّة الألوهيَّة، وحرمتها، تتجلَّى أهمّيَّة الصلاة باعتبارها علامة من علامات التقدُّم الإنساني في فهم الحقائق الكونية، وفهم الصفات الإلهية، بحيث لا قوام لدين من الأديان بغير الإيمان بالصلاة على معنى الطلب والدعاء مع الإيمان برياضتها الروحية، وصلتها الوثيقة التي تربط عالم الشهادة، بعالم الغيب، وتجعل وجود الإله أعلى من حقيقة النواميس أو حقيقة الحوادث الكونية التي تهم الإنسان في معيشته، كما تهمّه في مطالب ضميره..[11]

إن وجود النواميس الطبيعية لا يلغي عمل الإله، ولا يعني أن الاتّصال به، والانقطاع عنه، سواء..،  والذين يفهمون أن نواميس الطبيعة، واقع مفروغ منه، يخالفون العلم والفلسفة، وليس قصاراهم أنهم ينكرون الإرادة الإلهة من ورائها، فمن المقررات العلمية الحديثة أن العلم لا يستطيع أن يعرف مقدّمات كيف يتصرّف كهرب واحد من كهارب الأجسام المادية، وإنما الذي نعرفه من ذلك إنما هو حكم الجملة، يستحيل تطبيقه على الأجزاء المتفرّقة…؛ فالعلماء الذين يتمثَّلون الكون كأنه “مكنة” أرسلت في طريقها، وانقطعت عوامل التكوّن فيها، إنما هذا الاعتقاد ضرب من التصوّر، لا يوافقهم عليه كثير من العلماء والمفكّرين…، نظرا لكون المصادفات قد تكون قوانين في دور التكوين، وليست شذوذا عن قوانين مبرمة منذ الأزل، وأن القوانين قد تكون مصادفات تكرَّرت على وتيرة واحدة، ولكنها لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط الأسباب بالمسببات…، وهذا المذهب مطابق لرأي الإمام الغزالي ( 505ت) وللإجماع  الذي انعقدت عليه آراء العلماء المحدثين، فإنهم يقولون إنَّ التجارب العلمية إنما هي تجارب وصفية، تسجل الواقع كما يتكرَّر أمام المجرّبين، ولكنها ليست بالتفسيرات التي تحلِّل الأسباب بعلَّة محقَّقة، غير علَّة التكرار، والاستمرار.

 وأيا كان الرأي في السببية عند العلماء في العصر الحديث، فالقول الفصل الذي لا شك فيه أن قوانين الطبيعة، لم تحصر جميع عواملها، وإن الحصر الذي وصلنا إليه قد يعين على تقدير الحوادث المترتِّبة عليها بالإجمال، ولا يعتمد في تقدير حادثة واحدة بغير الظن والتقريب.

فإذا نظر إلى التقدير العلمي، فالباب مفتوح في الكون للعوامل التي لا تحصرها ضوابط القوانين، والنواميس.

أما إذا نظرنا إلى التقدير من الوجهة الدينية، فالخلق ” عملية مستمرَّة” مرجعه إلى إرادة الله …[12]، فالناموس، لا يملك وحده قدرة الانطباق والتوافق، التي يسبّب بها ألف حادث على نسق واحد، لا بد له من القدرة التي يتابع بها هذا السبب، بلا فرق، بين الجملة، والتفصيل.. بحيث لا فرق هنا، بين الحادث الذي يقع مرة واحدة، والحادث الذي يقع ملايين المرات.. فكلها تتوقف في بادئ الأمر على إرادة الخلق والإنشاء.. فالإيجاد مسألة معقولات، تقع لأنها قائمة في العقل المحيط بجميع الكائنات الذي لا يعجزه شيء، في الأرض ولا في السماء..، لأن تغيير نواميس الكون وقوانين الطبيعة أو تغيير الحوادث كلها في قدرة العقل المطلق أهون من قضية عقلية مجردة، يستوي فيها الحساب الكثير، بالحساب القليل فلا يمتنع عقلا أن تقع المعجزة، ولكن الشيء الذي لا يقع في العقل المطلق هو العبث الذي لا يساغ في سائر العقول.. [13]

إن حقيقة الكون الكبرى، أشق مطلبا وأطول طريقا، من حقيقة الأشياء المتفرّقة التي يعالجها العلم…

 كما أن الرجوع إلى أصول الأديان في العصور البدائية الأولى لا يدل على بطلان التديُّن، وكل ما يدلّ عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلَّى للناس كاملة في عصر واحد، وأن الناس يستعدون لعرفانها طورا بعد طور..، وأسلوبا بعد أسلوب. لقد أسفر علم المقابلة بين الأديان، على كثير من الأساطير التي آمن بها الإنسان البدائي ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، ولم يكن من المنظور أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة، وليس في هذه النتيجة جديدة في الحكم على جوهر الدين.

 إنّ الحقّ الذي لا يقبل المراء، أن الحاسَّة الدينية بعيدة الغور في الطبيعة الإنسانية. وأن الإنسان لا يستقر في هذه العوالم بغير إيمان.

وقد اتَّفق العلماء على أن تأصيل العقيدة الدينية في طبائع بني الإنسان، من أقدم أزمنة التاريخ، ولكنهم لم يتّفقوا على الباعث عليها.. فهي بدون شك، ترجع إلى باعث يحفز الطبيعة الإنسانية إلى طلب العقيدة..، ويجوز أن يرجع إلى بواعث كثيرة، ولا مانع لتعدّدها، ويصح أن تتّفق جميع البواعث التي شرحها العلماء، وسردوا الشواهد عليها بحيث لا ينفرد باعث منها بنشأة الدين منذ أقدم العصور، وألا توصد الأبواب على البواعث الأخرى التي قد تتجدَّد الآن وقد تمضي في التجدُّد إلى غير انتهاء… [14]

 لقد التبست عقائد الهمج البدائية بالأساطير، وهذا ما أدَّى إلى تداخل بين الأسطورة والعقيدة، عند جميع القبائل الفطرية، إلا أن هذا لا يعني أن هناك تطابقا بين العقيدة والأسطورة في كل شيء، ولا تحتويها، إذ يشتمل عنصر العقيدة على زيادة لا يشتمل عليها عنصر الأسطورة، وهي زيادة في الإلزام الأخلاقي، والشعور الأدبي بالطاعة، والولاء، والأمل في المعونة والرحمة من جانب الرب المعبود.

 وقد وجدت أساطير كثيرة، لا تتجاوز الاوصاف الرمزية، والمشابهة الفنية، التي طبع  عليها الخيال، فهي ترجع إلى ملكة والتجسيم والتصوير، ولا ترجع إلى ملكة  الإيمان والاعتقاد[15]

ويرى بعض الباحثين، أن الاستحياء « animisme »هو أصل الاعتقاد بالأرباب، فالإنسان الأول تمثَّل الأشياء في صورة إحياء، فالنجوم أرباب حية) تشعر وتسمع وتطلب ما يطلبه الحي من غذاء ومتاع، فيشعر البدائي إزاء القوى الحيَّة، شعور الهيبة والرغبة، ويسعى إلى استرضائها بالصلاة، والدعاء كما يسترضى الأقوياء بالملق والرجاء.

وتعتبر عبادة الأسلاف من أقدم العبادات فكان الإنسان البدائي يخشى الأطياف ويعتبر أن لها عليه فروضا.

ويعلِّل ناقد الأديان العقيدة الدينية بضعف الإنسان أمام مظاهر الكون وأعدائه فيه من القوى الطبيعية، فلا غنى له، عن سند يبتدعه، ليشعر بالطمأنينة بالتعويل عليه، والتوجُّه إليه بالصلوات في شدته وبلواه، إلا أن ضعف الإنسان ليس من شأنه بطلان العقيدة الدينية، فضعف الإنسان تحصيل حاصل، ولن يكون إلا ضعيفا بالنسبة إلى الخالق الذي يبدعه ويرعاه..[16].

 لكن الواقع أنَّ الضعف لا يعلِّل العقيدة الدينية، كل التعليل، لأنها تصدر عن غير  الضعفاء، بين الناس وليس أوفر الناس نصيبا من الحاسَّة الدينية أوفرهم نصيبا من الضعف الإنساني، سواء أردنا به ضعف الرأي أو ضعف العزيمة،  ومهما يكن من صلة بين ضعف الإنسان واعتقاده، فهو لا يزداد اعتقادا  كلما ازداد ضعفا، ويضعف على حسب نصيبه من الاعتقاد وما يزال ضعفاء النفوس، ضعفاء العقيدة وذو قوة في الخلق ذو قوة في العقيدة..

 فليس معدن الإيمان، من معدن الضعف، وليس الإنسان المعتقد هو الإنسان الواهي الهزيل..

والأولى والأصح في التقرير والتحقيق أن العقيدة تعظِّم الإنسان، على قدر إحساسه بعظمة الكون وعظمة أسراره وخفاياه، لا بقدر إحساسه بصغر نفسه وهوان شأنه، فمبلغ الإحساس بالعظمة هو مبلغ الإحساس، بالعقيدة الدينية، وصغر الكون في نظر الإنسان نقص في الشعور بظاهره وخافيه ونقص تبعا لذلك في طبيعة الاعتقاد وطبيعة الإيمان.

من هنا تكون الحاسة الدينية مجاوبة صحيحة للوجود العظيم الذي يحيط بالإنسان سرمديا بعيد الأغوار عميق القرار، فليس الكيان الصحيح هو الذي مر بهذا الوجود وكأنه  لا يراه، ولا يهتزّ له، وإذا سبر أعماقه قصر عن مداه بل الكيان الصحيح هو الذي يجيش بتلك الحاسَّة القوية فيستهول الكون ويستقبله بالحيرة والتقديس لأنه في الواقع هائل محير، جامع لمعانٍ في لغة اللسان ولغة الضمير.

ولهذا تكون العقيدة مصدر الصحة، لأنها تجاوب الوجود المحيط بالنفس الإنسانية، ولا تكون مصدر النقص، والغفلة من حقائق الأمور.. [17].

وإذا رجح القول بأن العقيدة ” ظاهرة اجتماعية، يتلقاها الفرد من الجماعة، فليس الضعف بالعامل الملح في تكوين الاعتقاد.، ومن ثم لا نعدو الصواب، إذا قلنا إن العقيدة هي ترجمان الصلة، بين الكون والإنسان، إذ لا بد من صلة بين الكون وبين كل موجود من أصحاب الوعي، والشعور فمن المحقَّق أن الصلة بين الكون وموجوداته، ماثلة في جميع الموجودات  ومن المحقّق أن الوعي لا يخلو  من ترجمان لهذه الصلة، لا يحصره عقل، لأنه سابق له، محيط به، وغالب عليه، ومن المحقق أن “الوعي الكوني” ملكة قابلة للترقي، والاتِّساع؛ لأن الحقائق التي تقبل الفهم في الكون لا تزال على اتساع وارتفاع يفوقان كل وعي ترقَّى إليه الإنسان.

 ففي الكون مجال “للوعي الكوني” أوسع من مجال الحواس والملكات في نطاق وعيه. ولا موجب لوقفها دون غاية من الغايات التي تطيقها ملكات الجنس البشري، ومنها ملكة الاعتقاد والإيمان ولا يوجد عقل سليم يمنع التفاوت في هذه الحواسّ النفسية، وبين تلك الحقائق الكونية، ما دامت قائمة وما دام الوعي في طريق الارتفاع والاتِّساع.

 هذه العلاقة التي هي أكثر من علاقة، لأنها احتواء واشتمال” والديانات في كل قبيل تترجم هذا الوعي الكوني منذ القدم وتمثّله بما تشاء من الرموز والعبارات..[18]

 فقد مرَّت الإنسانية بعدَّة أطوار في اعتقادها بالإلهية والأرباب بدور تعدَّدت فيه الإلهية، بحيث يكون لكل جماعة رب تعبده وتقدِّم له الصلوات والقرابين، ودور الوحدانية الذي تتوحَّد فيه الأمَّة والشعب إلى عبادة واحدة تؤلِّف بينها، وتفرض الأمَّة عبادتها على غيرها ممن يخضعون لسيادتها.. ولا تصل الأمة إلى هذه الوحدانية الناقصة، إلا بعد أطوار في الحضارة تشيع فيها المعرفة ويتعذَّر فيها قبول الخرافات التي كانت سائغة في عقول البدائيين الهمج، فتصف الله بما هو أقرب إلى صفات الكمال، والقداسة من صفات الآلهة المتعدِّدة في أطوارها السابقة، وتقترن العبادة بالتفكير في أسرار الكون وحكمة الله العالية، وتنزل الأرباب الأخرى إلى درجة متدنية في سلم الربوبية. والراجح عند علماء المقابلة بين الأديان، أن الاعتقاد بالثنائية  (dualisme)يأتي بعد الوحدانية الناقصة التي تأذن بوجود الأرباب معها  أو بتنازع الوحدانية بين إله وإله.

 ويعلِّلون ظهور الثنائية بترقّي الإنسان، فيحاول أن يميز في الوجود بين “الشرّ والخير” ويسبغ التمايز والترجيح بينهما والتفاوت بين الطبائع فلا تكون الثنائية نكسة من الأعلى إلى الأدنى، بل تقدّما من الأدنى إلى الأعلى لتنزيه الله، والارتفاع بصفاته إلى أرفع صفات الكمال الموافقة لترقي الإنسان في أطوار العبادة.

فالأرباب في الأمم الماضية لم تكن نوعا واحدا، بل كانت أنواعاً شتَّى وهي:

  1. أرباب الطبيعة.
  2.  أرباب الأسرة والأسلاف.
  3. 3-         أرباب العشق والحرب والسلام.
  4. أرباب الخصب.
  5. آلهة الخلق التي ينسب إليها خلق السماء والأرض والإنسان والحيوان.

هذه الطبقة من العبادة هي أرقى ما بلغته الإنسانية في أطوارها المتوالية، واستعدَّت بعده للإيمان بإله واحد لجميع الأكوان والمخلوقات بغير استثناء أمَّة من الناس.

فالتطوّر في الديانات محقَّق ولا شكّ أنه لم يكن على سلم واحد متعاقب الدرجات.

 إنَّ التوحيد هو نهاية تلك الأطوار كافة في جميع الحضارات الكبرى، فكل حضارة آمنت بإله يعلو على الآلهة قدرة  وينفرد بالجلالة بين الأرباب..

فالأديان الكتابية، هي التي بلغت بالتوحيد، غاية مرتقاه، وعلَّمت الناس عبادة الإله “الأحد” الذي خلق الوجود، ووسَّعت قدرته السماوات والأرضين… ولم يكن له شريك في الخلق والقضاء…[19].

فقد اهتدى الإنسان إلى فكرة” الروح” فكانت هذه الهداية مفرق الطريق في الثقافة الإنسانية، سواء منها ثقافة العقل، أو ثقافة الضمير.. وتسنَّى له، بذلك أن تفتح لعقله، منفذا إلى ما وراء المادة المطبقة على حسِّه، وفكره ولو ظلَّت مطبقة لفاته العلم والدين معا.

وقد تبدَّلت قيم الحياة في روع الإنسان بهداية الروح، من هنا التفريق بين الروح والجسد، وبين العقل والمادة وبين الحركة والجمود، وبين الخير والشر، وبين النور والظلام، وبين المعاني المجرَّدة والأجسام المحسوسة، ممَّا أدَّى إلى اتِّساع أفق النظر وراء أفق الحيوان، فكانت هداية الروح إلهام الصواب في عالم العقل وعالم الضمير.

  وقد امتزجت عقيدة الروح بكل عقيدة دينية، وإنما تترقَّى الأنماط، على حسب ترقِّي المعارف والمعقولات…[20]

وممَّا لا منازعة فيه، أن التدرج هو النموذج الذي تترقى عليه الديانات.. فالحضارة القديمة في مصر وبابل وفارس، والهند كلما ترقت من طور للعبادة إلى طور أعلى.. فأيها أسبق إلى الاهتداء إلى التوحيد؟ أغلب الظن أن مصر بدأت بتوحيد الدين كما بدأت بتوحيد الدولة.

وجملة القول إنَّ أطوار العقيدة الإلهية، تشعَّبت فلم تطرد على مراحل متشابهة في جميع الأمم.

 لقد اتَّسعت نظرة الإنسان إلى ما هو أعلى وأعظم، عابرا من عدوة التعديد إلى عدوة التوحيد.

ويبدو الترقّي الديني من ترقّي العقل في تفسير كلمة الإله؛ فالكلمة تدلُّ على البطولة المطلقة، ومن فكرة البطل إلى فكرة الله الحي القيوم الصمد، له تاريخ طويل هو تاريخ العقل في الترقّي إلى التوحيد.

فالعقل يستلزم أن يكون الكمال المطلق “ذاتيا” أي كائنا كاملا، يتَّصف بالوعي لأن نقص الوعي نقص من الكمال وأن الدين لا يستقيم بغير إله، تتَّصل به المخلوقات ويتقبَّل منها، الدعاء والرجاء.. فلا انفصال بين طبيعة الدين، وطبيعة الذات الإنسانيَّة، والذات الإلهية، ولا يتأتَّى أن يتديَّن الإنسان وهو يؤمن في قرارة الضمير، بالقوى الكونيَّة التي لا تعقل ولا تعي، ولا تريد، فلا يفهم العقل إلها بغير ذات، ولا يفهم الكمال المطلق يتأتَّى لغير كائن كامل.

 والقول بالذات الإلهية، يبطل القول بوحدة الوجود كما يبطل القول بأن الله معنى لا ذات له أو قوة غير واعية..[21]

 والخلاصة التي تنتهي بنا إلى النتائج التي يرتضيها العقل أو يتطلبها الضمير، سواء من جانب العقائد الدينية، أو من جانب المباحث الفكرية، أن التوحيد أشرف العقائد الإلهية وأجدرها بالإنسان، في أرفع حالاته العقلية والخلقية، وهدف العقيدة التوحيدية- في الله- والنبوَّة الارتقاء بالضمير الإنساني إلى أقصى غايات التقدُّم التي ارتقى إليها الناس بعد الديانات الجغرافية والديانات العنصرية والديانات المقفلة التي تنحصر في بيئة ضيِّقة أو واسعة ولكنها لا تحيط بجميع بني الإنسان.

 فالدعوة الدينية، إنما تكون للهداية الممكنة، وللضمير الذي يقدر عليها، ولا تكون مع ” الاحتكار” و” الاستئثار” كما هو شأن الهندوكية أو الشنتبة (shintocisme) ديانة اليابان) وكلتا الديانتين لا عناية لها بالدعوة فهي مجرد تعبير طبيعي، لشعب خاص، وجزء من ثقافة اجتماعية.

 واليهودية تشبه الهندوكية والشنتية في أنها ديانة مقفلة ومصادر اليهودية في المسائل المتّفق عليها هي مصادر الديانات التوحيدية التي سبقتها، إلا أنها اختلفت عن الإسلام الذي له الفضل في الدعوة إلى الإرتقاء بالعقيدة الإلهية، التي جعلها اليهود مشيخة قبلية، وفي عقيدة النبوة التي جعلوها ضربا من التنجيم، وفي المسؤولية الإنسانية التي جعلوها ضربا من العصبية الجهلاء  لغير سبب ولا فضيلة [22].

 فالدين عند أصحاب الملل والدعوة عقيدة إنسانية تقوم على التوحيد وليس صبغة محلية، ولا بفريضة سياسية تمليها السلطة الحاكمة ويخضع لها الرعايا والمحكومين.

 وهذا الفارق في تطوّر الإنسانية واضح لو شاء علماء مقارنة الأديان أن يستوضحوه لأن النتيجة لو نظروا إلى هذا الفارق أن يرفعوا الإسلام إلى القيمة العليا بين العقائد الدينية، فالإسلام جاء بعدما بلغ التطوّر في فهم الدين مداه، فميَّز بين هداية الضمير وبين الانتساب الذي هو محصول أرضي يرتبط بالمنافع الدنيوية الزائلة.

إنَّ انتقال الأديان من الملل العنصرية والجغرافية إلى ملل الدعوة ظاهرة تدل على الانتقال إلى عقائد الضمير الإنساني وعقائد التنزيه، والتوحيد..

 وقد ارتقى الإسلام بالضمير والتوحيد إلى أعلى مرتقاهما بما يهدي إليه.. في العقيدة الإلهية وفي رسالة النبوة وفي الإيمان، وهو حقيق بالانتشار والإقناع لأنه خاتمة التطور في أديان الدعوة، في أحوال المجتمع الإنساني بعد أن بلغ إلى مرحلة الوحدة الإنسانية ومرتبة الهداية المطلقة المتحرِّرة من قيود الانتساب ..[23]

 وجملة القول إن العقيدة الدينية في أرقى أطوارها تستقيم على سواء الخلق والإيمان الرشيد بالذات الإلهية، وهو خير تفسير يعقله المؤمن ويدين به المفكر ويتطلبه الطبع السليم.

فالإنسان مجبول على التطلُّع إلى حقيقة الأشياء، والأكوان، والوجود والشعور على إرضاء رغباته العقلية، والقلبية، والذوقية، بغية تقدير مكانه في هذا الكون، وفي هذه الحياة، فيتعلق من النوع بالحياة ويتعلق من العقيدة الدينية بمعنى الحياة..

فمن وعى حقيقة الوجود المطلق الكامل، كان أكمل وعيا وأقرب لواذا به و بحكمته وتدبيره وعمله.


[1]د/ حسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي في الأسس والتطبيقات، دار الهادي ط1/2004.، ص 10.

[2]عباس محمود العقاد، عقائد المفكرين، ض 4-5.

[3]المرجع السابق، ص 8-9.

[4]المرجع السابق، ص 18.

[5] نفس المرجع، ص 35.

[6] نفس المرجع، ص 134.

[7] نفس المرجع، ص 136.

[8] الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، طبعة دار السلام 2003، ص 187.

[9]عباس محمود العقاد، ما يقال عن الإسلام، كتاب الهلال 1965، ص 204.

[10] الإمام الغزالي، جواهر القرآن وذرره تحقيق خديجة محمد كامل، مراجعة د/ عفت الشرقاوي، دار الكتب والوثائق، 2010، ص 195 إلى 201 ( يراجع من الأصل الثاني إلى الأصل الثامن..)

[11] الإمام الغزالي، جواهر القرآن ودوره تحقيق خديجة محمد كامل، مراجعة د/ عفت الشرقاوي، دار الكتب والوثائق، 2010، ص 195 إلى 201 ( يراجع من الأصل الثاني إلى الأصل الثامن..)

[12] نفس المرجع، ص 6-7.

[13]العقاد، الفلسفة القرآنية، كتاب دار الهلال، ص19.

[14]عباس محمود العقاد، الله، كتاب في نشأة العقيدة الإلهية، طبعة دار السلام، 206، ص 6-7.

[15] نفس المرجع، ص8.

[16] نفس المرجع، ص 105.

[17] نفس المرجع، ص 10.

[18] نفس المرجع، ص 18.

[19] نفس المرجع، ص 23.

[20] نفس المرجع، ص 25.

[21] نفس المرجع، ص 48.

[22] ما يقال عن الإسلام، مصدر سابق، ص 122.

[23]المرجع السابق، ص 50.

جديدنا