الحاجة الماسة لنظام معرفي جديد

image_pdf

كتب مسؤول في دولة عربية محافظة مقالة في العام 2003 يقول فيها: “لا يوجد شيء اسمه فكر إسلامي، هكذا اسم كان بمثابة رد الفعل للاستشراق”، وفي رأيه فإن العلم يتمثّل بتفسير النصوص الدينية وكل ما يقع خارج هذه التفاسير لا يعد معرفة، وعلى المثقفين والباحثين وغيرهم أن يقصدوا رجال الدين لتفسير النصوص الدينية، وإلا فإن أي قراءة تصدر عن غيرهم ستكون كفراً وإلحادا.

لا يشفع المنهج الحديث أو الحث على التفكير بأدوات العصر، لمفكرين وباحثين وكتّاب مسلمين، في ممارسة حقّ التفكير والفحص والنقاش، وصولاً إلى التحديث.

وهذا مثال واحد من شريحة واسعة من مثقفي ومسؤولي الأمة ومفكريها ومن يعتقد بضرورة هيمنة نظام معرفي قديم من إنتاج البشر، أن يتمتع بقدسية نصوص القرآن الكريم، ليقف حائلا أمام نضج المجتمع العربي وإطلاق طاقات وإبداعات مواطنيه.

يعكس هذا الأمر في قناعتنا أزمة التفكير المعاصر المتجسدة في عجز واضح لمنهجية لا تنضج وعي الإنسان عندنا فحسب، بل تجعله ذا سلطة إيديولوجية ورؤية يقينية تخدم ثقافة السكون، وفي الوقت ذاته تعزز ثقافة مصبوبة في قوالب معينة أو أطر محددة يصعب الخروج منها لإحداث التواصل الحضاري الإنساني.

ولا بد من القول إن نمط التفكير هذا هو الذي أنتج الصفة “المقدسة” للسلفية السائدة اليوم، حيث أصبحت آلية تفكيرها بمثابة القيد الذي يشل حركة الواقع وتجسيدها لفكر وعقل نشأ في واقع آخر كمحاولة للانسجام شكلاً وقالباً مع زمان سالف.

وفي حوار مع أحد “المتخصصين في الشأن الفقهي” عن قضية دينية معينة كان جوابه في الحال: ” بأنه تمّ علاج هذا الأمر من قبل شيخ من القرن الثامن عشر” … فقلت له: الشيخ عاش في بيئة وواقع مختلف عن بيئتنا وواقعنا، ما هو رأيك المتوازي مع حاضرنا يا شيخنا الفاضل؟

لماذا ثمّة أجوبة جاهزة عن أسئلة تتعلق بتحديات صعبة، لماذا نشعر بالراحة والدعة للأجوبة السهلة والقديمة، لماذا نتقمص المطلق أو الرؤية الحتمية أو المقاربة المؤكدة عند التعامل مع قضايا مهمة في حياتنا المعاصرة؟

توجد في عقليات الكثير (مواطنون عاديون، مثقفون، متعلمون، إلخ) قناعات ومسلّمات أو يقينيات فقهية على أساس أنها قرآنية ما يجعل صعوبة التفريق بين الاثنين، بل يبرز الخلط والارتباك، لذا فإن الكثير من المثقفين هم أشباه أميين وغير قادرين على إحداث التغيير النظري المطلوب أولا، إلا القلة القليلة التي لم تصبح لغاية الآن شريحة نافذة.

يمكن تلمس هذه الصعوبة في عدم وجود أي حوار بين المثقف ورجل الدين، أو عدم تناغم الدراسات الأكاديمية المتعلقة بقضايا الدين مع كليات الشريعة أو عدم وجود دراسات فلسفية واسعة للدين. فدين من دون فلسفة، مثالا لا حصرا، لا يتمكن من تطوير معناه فيصبح تقليديا وغابرا في ظل انتشار أمية الحرف، حيث تشير الإحصائيات المنشورة في الصحافة العربية إلى إمكانية ارتفاع معدل الأمية في العالم العربي.

كذلك تشير الإحصائيات إلى وجود 44 مليون امرأة أمية في منتصف العشرينات أو ما يزيد من أعمارهن، في المنطقة العربية. مجتمع تنخر فيه الأمية والجهل مما يسهل استغلاله من قبل الجهلة وشيوخ الإفتاء.

يتوجب على موقف المثقف أن يكون أخلاقياً للتواصل بينه وبين المجتمع وأن يكون بمثابة الدماء التي تجري في شرايين الحياة والأفكار، وأن يجدد القراءة الثقافية القائمة على السياقات النفسية والاجتماعية والعلمية واللغوية لتتمكن من إحداث التراكم المعرفي واستنباط المنتج الدلالي والرؤية الجمالية النسبية الحديثة للنصوص، ما يجعل العقل قادراً على التجاوب مع الواقع، وهذا يعني أن المحتوى غير المرئي للأفكار وسياقاتها ليس عقلية فقط، وإنما ضرورة للإتيان بأفكار مرتبطة بالواقع وبيئته.

العقل هو العقل لكن الإبداع هو الذي يجعل العقل متميزا. التفكير هو واحد بالأساس لكن طرق التفكير هو واحد بالأساس لكن طرق التفكير مختلفة، والأفكار التي أحدثت النهضة الأوروبية هي ذاتها كانت موجودة في الفلسفة اليونانية القديمة أو أيام السيد المسيح لكن طريقة التفكير كانت مختلفة، وهذا ما يجعل الفعل متنوعاً ومتفاوتاً.

الإنسان واحد، لكن معرفة ذاته وبنائه الداخلي يجعل البناء الخارجي مختلفاً.. كل هذا يستدعي تأكيد حاجتنا الماسة إلى نظام معرفي جديد.

جديدنا