النور في القرآن الكريم

image_pdf

وردت لفظة “النور” في القرآن الكريم في آيات كثيرة، وتجلّى في معانٍ معنويَّة وماديَّة عديدة، كما توجد سورة بكاملها في محكم الكتاب تسمّى بالنور، فضلاً عن أنّ النور هو أحد أسماء الله الحسنى. وجاءت كلمة “النور” في القرآن في خمسةٍ وأربعين موضعاً، وفي جميعها وردت بصيغة الاسم، ولم يرد لفظ “النور” بصيغة الفعل مطلقاً، كما جاء ذكر الضياء في الكتاب ثلاث مرّات.

ويقول أهل اللغة إنَّ معنى كلمة النور مستمدّ من النون، والواو، والراء الدال على إضاءة، واضطراب، وقلّة ثبات، فالاضطراب يعني سريع الحركة، ومنها النار والنور التي تعني الإضاءة. ويقال نارَ الشيء، وأنار، واستنار: إذا أضاء. ويذكر أنَّ النور مأخوذ من النار، وتنورتُ النار: تبصرتها، إذا قصدت نحوها. ومنه النَّوْر: زهر الشجر ونواره وأنارت الشجرة: أخرجت النَّوْر. ويستعار النور في مواضع تدلّ عليها القرينة، فيقال: أنار شخصاً كلامه: إذا أوضحه. والمنارة: مفعلة من الاستنارة أو منار الأرض: حدودها وأعلامها، وسميت بذلك، لبيانها وظهورها.

وتجسّدت كلمة “النور” في القرآن في عدّة معانٍ معنويَّة كالإسلام والهدى والإيمان والقرآن والحقّ والعدل .. ومن أجمل الآيات الكريمة (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، أو (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) أو (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ).

(قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ) أي أنار الله محمد صلى الله عليه وسلم به الحق، أو بمعنى العدل من ذلك (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا).
كما يعني لفظ “النور” بمعناه المادي كذلك، أي ضياء لأهل الأرض كما في (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) وجاء ذكر الضياء في القرآن (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ) أو … (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ).

ويبدو أنّ التفسيرات والمفاهيم التاريخيَّة والحديثة إلا ما ندر منها تركّز على الجانب المعنوي والروحي لمسألة النور وتهمل الجانب المادّي ذا العلاقة مع حياة الإنسان وواقعه العملي ودور ذلك لسبر أعمق لمفاهيم الاعتقاد وعباداته. والقراءات التاريخيَّة في الأعم كانت تهدف لتفسير معاني الآيات وكلماتها على انفراد وليس النظرة الشاملة لكل الآيات المشتركة في لفظ “النور” للخروج بمفاهيم جديدة. فالعقل المتسائل يبحث عن حذق أكبر لمعانٍ أكثر دسامة في استنباط مفاهيم عميقة ونافذة عن النور في الوصول لقناعات وقراءات ذات تداخلات أوسع في حياته المعاصرة العمليَّة والروحيَّة.

فذكر “النور” على صيغة اسم من آيات القرآن، مثالاً لا حصراً، لأنه هبة الله، خالق النور لعبده، بينما ما يقوم به الإنسان من فعل، كصاحب إرادة وخيار، في تسخير هذه الهبة لحياته وأعماله وواقعه، ممّا يجعل الفعل بمثابة النور.

وذكر النور على شكل مفرد، بينما الظلمات تأتي على شكل جمع لأنّ النور حقّ والحقّ واحد. بينما الظلمات متعدّدة المصادر كالإنسان والطبيعة، والنور مصدره واحد يبدأ من نقطةٍ واحدة تنبعث لتكبر وتنتشر وعندما تنطفئ تعود لنقطة الانبعاث، موحداً مادّيّاً غير منقسم ومجسّداً ارتباط الجزء مع الكل، تنكشف وتتجلّى للعيان عند الانتشار، وتعود وتطوي على ذاتها عند الانطفاء والاختفاء… أو الخروج من الظلمات إلى النور كالحركة من الموقع النسبي إلى الموقع المطلق.

من الإدراك النسبي إلى الإدراك المطلق.. الحركة نحو الله. وفي الدنيا هناك ظلمات كثيرة لا نتمكّن من رؤية النور كاملاً … وستتمّ الإضاءة الشاملة عند العودة إلى الرب الكريم يوم الميقات الموعود.

والقراءة الشافية للقرآن تبيّن أنّ النور كالمعرفة. فالمعرفة توعي الإنسان وتحسّن وضعه وتعينه على أمور حياته وتكشف لعقله الأمور الغامضة، بينما الحال مع النور هو تسخير الضياء لتجلي ذات الإنسان وما حولها من الأشياء المبهمة.

القراءة الأوّليَّة للقرآن توحي أنّ جوهر الكتاب يتمحوّر حول الإنسان ومدعم من قبل المعرفة والنور.. أو بصياغةٍ أخرى أركان القرآن قائمة على الإنسان وتسخير المعرفة والنور لسعادته في أرضه وما بعدها.     


جديدنا