هل تنجح الصوفيَّة في مواجهة التشدُّد والتطرُّف؟

image_pdf


التصوّف كما العرفان، تيّار ظهر في بدايات العصر العباسي مؤسّساً طريقاً جديداً لفهم الإسلام والوصول إلى الله، يقوم على معرفة الحقيقة مقابل الشريعة عند الفقهاء، وتكرّس هذا الاتّجاه في البيئة العربيَّة الإسلاميَّة حتى صار من مرتكزاتها الأساس.
يؤكِّد ذلك التقسيم الثلاثي المشهور للراحل محمد عابد الجابري في تحليله لنظم الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة إلى بياني وبرهاني وعرفاني.
والعرفان بحسب الدارسين والمختصّين شامل للتصوّف، ويتّفقان معا في المسلك الباطني لمعرفة الحقائق والتربية الروحيَّة.

وما يهمّنا اليوم في هذا المقام، هو رصد كيفيَّة حضور هذا المكوّن في ثقافتنا وبيئتنا المعاصرة، خصوصاً من زاوية استدعائه كمنقذ من معضلة التطرّف الديني أو كنقيض لمنظومة التطرّف والتشدّد الذي اجتاح العالم العربي والإسلامي ولا يزال.

وقد شهدت السنوات الأخيرة ظهور كتابات عديدة وتنظيم ملتقيات ومؤتمرات دوليَّة في هذا الاتّجاه، فضلاً عن دخول المعطى الصوفي في حسابات بعض الحكومات لتوظيفه في محاربة داء التطرّف. وأظهرت قراءات عديدة الدور الذي يمكن أن تلعبه الطرق الصوفيَّة في تصحيح صورة الإسلام، بعد أن شوّهته الجماعات المتشدِّدة، فالطرق الصوفيَّة تركِّز على التربية الروحيَّة التي تجعل الإنسان راضياً عن نفسه وتجمِّل له العالم.

وفي هذا الصدد، نقلت صحيفة “العرب” عن عدد من الخبراء دعوتهم إلى توظيف الموروث الصوفي في مواجهة الأصوليَّة، لافتين إلى أنَّ أنصار الطرق الصوفيَّة، وهم بالملايين، على قدرة حقيقيَّة على هزيمة الجماعات المتشدِّدة مثل السلفيَّة والجهاديَّة والإخوان باعتماد خطاب ديني إيجابي يراهن على التربية الروحيَّة.

في مواجهة التطرّف الديني



نشر موقع “قنطرة” مقالاً لـ”بيات شتاوفر” بعنوان: “الطرق الصوفيَّة في المغرب: مواجهة التطرّف الديني بالتصوّف” حيث أشار إلى قصَّة مغنّي الراب ريجيس الذي أسلم واعتنق الطريقة القادريَّة البودشيشيَّة، مبيّناً أنَّ قصَّة هذا الشاب استرعت اهتمام سياسيّين بارزين على ضفتي المتوسّط جعلتهم يهتمّون بنوع الإسلام الذي تقدّمه الطرق الصوفيَّة، يقول: “غدا التساؤل الذي يطرح نفسه بينهم هو ما إذا يمكن لطريقة صوفيَّة تقليديَّة أن تكون وسيلة لتأطير شباب الضواحي المصابين بالإحباط ومشاعر القهر وتحويل اهتمامهم عن مسلك الحركات الدينيَّة المتطرّفة، بل وصرفهم عن الانتماء إلى تلك المجموعات الإسلامويَّة الراديكاليَّة؟”.

ونشرت شبكة “رؤية” الإخباريَّة مقالاً بعنوان: “التصوّف في خطط مكافحة التشدّد والتطرّف” ضمّ آراء من وصفتهم بالخبراء، وأوردت على لسانهم” إنَّ هناك صحوة صوفيَّة في شمال أفريقيا تمتدّ من مصر وصولاً إلى موريتانيا وتشمل مالي والنيجر والسنغال، وإنَّ هدفها إنقاذ صورة الإسلام ممّا لحقها من تشوّه على أيدي جماعة الإخوان والمجموعات السلفيَّة”.

وتسلّط دراسة لمازن الشريف، نائب رئيس اتّحاد الطرق الصوفيَّة بتونس، الضوء على ضرورة الاهتمام بالفكر الصوفي في تونس، التي تأتي كأوّل مصدر للمتطرّفين في سوريا والعراق، مؤكِّداً أن تونس، تواجه كغيرها من دول العالم، خطر الإرهاب وما يحمله من عقائد فاسدة ونهج تكفيري متعصِّب ونمط دموي مدمّر، لا يحتاج إلى عمليّات عسكريَّة لمحاربته، بل إلى استراتيجيّات خاصَّة تنبع من أعماق المجتمعات المتضرّرة.

ونشر موقع أقطاب للطرق الصوفيَّة بالمغرب مقالاً بعنوان: “التصوّف في مواجهة التطرّف.. هل ينجح؟” لحسين الرواشدة، تطرَّق فيه إلى تجذّر التصوّف في البلاد المغربيَّة، حيث أشار إلى أنَّ “التراث الصوفي المغربي قد تجذَّر في التربة المغربيَّة وامتدَّ إلى خارجها، كما ساهم أيضاً في تشكيل الشخصيَّة المغربيَّة وإثرائها، ومن الاعتبارات أيضاً ما تبذله الدولة المغربيَّة من جهود لمواجهة التطرّف بالتصوّف، ومع أنَّ هذه المسألة تبدو إشكاليَّة وسط النخب السياسيَّة، إلا أنَّ الحكومة نجحت إلى حدٍّ بعيد في توظيف “الزوايا” لملء الفراغ الديني ومواجهة تيّار الإسلام السياسي، ولا أدري إذا كان بمقدور هذه التجربة المغربيَّة أن تعمَّم على غيرها من البلدان الإسلاميَّة، أو إذا ما كان بمقدور التصوّف أن يطرح نفسه كحل وكبديل، أو أن يجيب عن أسئلة “المجتمع” خاصَّة أسئلة الشباب، مع أنّني أدرك تماماً أنَّ هروب بعض الشباب في بلداننا الإسلاميَّة إلى الزوايا الصوفيَّة قد اتّسع في السنوات الماضية.. ليس اقتناعاً بفكرة التصوّف، وإنّما هروباً من الإحباط السياسي من الانسدادات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة أيضاً.

من اللافت- بالطبع- أنَّ في المغرب أكثر من 35 طريقة ومشيخة صوفيَّة. كما أشار الكاتب إلى أنَّ اختيار السيد أحمد التوفيق وزيراً للأوقاف، وهو ينتمي إلى الزاوية البودشيشيَّة دليل على انحياز الدولة المغربيَّة لخيار التصوّف في مواجهة الإسلام السياسي والمتطرّف أيضا.

ونشر موقع “ميدل إيست أونلاين” ملخّصاً من بحث عمر البشري بعنوان: “التصوّف والإرهاب” عن مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي، جاء فيه إنَّ: ” توظيف التسامح الصوفي في مواجهة التطرّف السياسي الأصولي الحزبي يبقى محكوماً بمحدوديَّة فعاليته لأنَّ كلاً من الزاوية وحركات التديّن المعاصر؛ لا تستثمر في المشترك، بل كل منهما له اختياراته ومخاطبوه أو مريدوه الذين يتمّ استهدافهم بعيداً عن التقاطع على هذا المستوى، مع أنّ الدين هو العنوان الكبير والمشترك بين هذه الأطراف، إلا أنَّ الرهانات تكاد تكون غير ذات صلة، فلكلٍ مشروعه وبرنامجه واستراتيجيّته”.

في الاتّجاه ذاته، تمّ تنظيم مؤتمرات وملتقيات دوليَّة لهذه القضيَّة، ومن أبرزها الندوة الدوليَّة التي احتضنها المغرب يومي 10 و11 حزيران (يونيو) 2015 حول “دور أهل التصوّف في حماية المجتمعات من التطرّف”، وتضمَّن برنامج الملتقى عدداً من المواضيع وعلى الخصوص دور أهل التصوّف في حماية المجتمعات من التطرّف، وأهمّيَّة انفتاح أهل التصوّف لمعالجة التشدُّد والتطرّف، والطرق الصوفيَّة بساحل العاج وطرق مواجهتها للجماعات المتطرّفة، وأهمّيَّة التربيّة الروحيَّة في نبذ العنف والتشدُّد والتطرُّف. كما اشتمل على مواضيع عدّة كالطرق الصوفيَّة في السنغال ومواجهة الفكر المتشدِّد، والحركات المتشدِّدة .. محاولة لفهم عناصر التمدُّد والانتشار، ودور التصوّف في مكافحة التطرّف، والتطرّف أسبابه وعلاجه في ضوء التربية السلوك، والثوابت الدينيَّة المساهمة في تحصين مجتمعات غرب أفريقيا ضدّ التطرّف، وأكّد المشاركون وهم باحثون وأكاديميّون من المغرب وكوت ديفوار والسنغال والسودان ومالي ولبنان والنيجر واليمن وفلسطين والأردن وإيطاليا وبريطانيا والهند وباكستان، على ضرورة اضطلاع الطرق الصوفيَّة والزوايا بدورها في تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تفضي إلى التعصّب الطائفي المؤدّي إلى التطرّف. وشدّد المشاركون في هذا اللقاء، على أنَّ التطرّف ليس مرتبطاً بالإسلام كديانة سماويَّة توحيديَّة، بل يتعلَّق بقراءات وتأويلات سياسيَّة دينيَّة بشريَّة للقرآن الكريم والسنّة النبويَّة.

وفي نواكشوط، نظَمت عدّة هيئات صوفيَّة الأربعاء 8 نيسان (أبريل) 2015 مؤتمراً افتتح من قبل وزير الشؤون الإسلاميَّة والتعليم الأصلي أحمد ولد أهل داوود حول موضوع “التصوّف أمان من التطرّف” وهدف المؤتمر بحسب القائمين عليه إلى إحياء التراث وتطبيق الدين الإسلامي الحنيف بعيداً عن الغلوّ والتطرّف الذي ينتهجه البعض لتشويه الدين الإسلامي. وألقيت خلال المؤتمر محاضرات أشارت إلى الدور المهم للطرق الصوفيَّة في نشر الدين الإسلامي في عددٍ من الدول الأفريقيَّة.

ونظَّم المركز الأكاديمي الدولي للدراسات الصوفيَّة والجماليَّة في المغرب، ندوة دوليَّة حول “التصوّف المغرب في امتداداته الكونيَّة” بمدينة فاس، بمشاركة باحثين من 25 دولة عربيَّة وأجنبيَّة، ناقشوا على امتداد أربعة أيّام، القضايا المرتبطة بالحركات الصوفيَّة، وأجمعوا على أهمّيَّة الدور الذي يمكن أن تلعبه الحركات الصوفيَّة في حياة الأمَّة الإسلاميَّة، على ضوء ما يواجهها من تحدّيات داخليَّة وخارجيَّة ارتباطاً بتنامي ظاهرة الإرهاب الذي يتدثَّر بغطاءٍ ديني.

البعد السياسي في استدعاء التصوّف

 
وفي المغرب شدَّد الباحث محمد ضريف المتخصّص في الحركات الإسلاميَّة على أنَّ الدولة المغربيَّة بدأت تستعدّ لمواجهة المدّ المتطرّف بعد عام 1979 ولعبت على تناقضات الحقل الديني، إذ استعملت التيّار السلفي الوهابي لمواجهة التشيع وفي عام 2001 بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتّحدة تبين للدولة أنّ الخطر قادم من التيّارات السلفيَّة، وهنا بدأت تفكّر في إعادة توجيه دور الزوايا وأنّ هذا الاتّجاه الجديد للزوايا يصبّ في مجال اهتمام الدولة، حيث تبيّن لها أنَّ الإسلام الرسمي ممكن تدعيمه من طرف الحركات المتصوّفة لأنّه يقترب من تصوّرها وأصبح مطلوباً من التصوّف أن يقدّم تصوّر الدولة عن الإسلام المنفتح المعتدل الذي لا يتدخّل في السياسة.  

واليوم تراهن السلطة في الرباط بقوّة على الطرق الصوفيَّة من أجل التصدّي للتطرّف الديني في شكله السلفي المندفع نحو العنف.
وممّا تجدر الإشارة إليه في هذا السياق، انخراط الولايات المتّحدة الأمريكيَّة في الدعوة إلى هذا التوجّه الصوفي في العالم الإسلامي سواء من الناحية السياسيَّة، أو عبر مراكز الدراسات والأبحاث. فقد نشر مركز “كارنجي” دراسة اعتبرت جزءاً من توجّه تنتهجه الإدارة الأمريكيَّة وتحثّ عليه حكومات منطقة آسيا الوسطى (أوزبكستان، تركمانستان، طاجيكستان، قرغيزستان، كازخستان) بالعمل على جذب الحركات الصوفيَّة إلى صفّها واستخدامها كمنافس للحركات الإسلاميَّة الأخرى التي يتمّ نعتها بالراديكاليَّة والتطرّف والتعصّب والوهابيَّة، والتي تقول عنها هذه الحكومات إنّها دخيلة على المنطقة، وإنَّ الصوفيَّة هي التي تمثّل الإسلام الشعبي للمنطقة.

ومن ضمن المراكز التي سارت في هذا الاتّجاه مركز “نيكسون للدراسات” في العاصمة الأمريكيَّة الذي عقد ندوة بحثيَّة في آذار (مارس) 2004 ناقش فيها كيفيَّة إسهام الصوفيَّة في تحديث ودمقرطة العالم الإسلامي، وكيف يمكن للولايات المتّحدة أن تستفيد من الصوفيَّة في آسيا الوسطى.

وعبَّر الباحث بمعهد السلام الأمريكي روبن رايت في مجلّة نيويورك تايمز في عددها الصادر 20 آب (أغسطس) 2012 عن هواجس أمريكا من التطرّف الإسلامي بقوله: “لا تخافوا سائر الإسلاميّين، خافوا السلفيّين” محذّراً من ظهور ما يسمّيه: “هلال سلفي جديد يتشعَّب من مشيخات الخليج إلى بلاد الشام وشمال أفريقيا، هو أحد المنتجات الجانبيَّة الأكثر تجاهلاً والمثيرة للقلق من الثورات العربيَّة. وبدرجاتٍ متفاوتة يتحرّك هؤلاء المتشدّدون في الفضاء السياسي الذي كان يحتلّه المسلّحون، والذين هم أقل رواجاً الآن، وكلاهما أصوليّون يفضّلون نظاماً جديداً مشكّلاً على غرار الإسلام الأوّل”.

وكان مفاجئاً في مصر بعد الثورة وتصاعد القوى الإسلاميَّة من إخوان وسلفيّين، الإعلان عن تأسيس حزب من الصوفيّين وهو حزب النصر اللاح زايد، والذي أوضح، أنَّ المسلمين “ابتلوا” بالتطرّف من أغلب المذاهب، ما أدّى إلى تمزّق الأوطان العربيَّة، وأصبحت الصراعات الطائفيَّة والحروب الأهليَّة هي عنوان المسلمين، مشيراً إلى أنَّ المستفيد الأوّل من تلك الصراعات هو الغرب.

وأشار زايد، إلى أنّ الجماعات السلفيَّة الجهاديَّة تحارب الجيش المصري في سيناء، وغيرها من المناطق المختلفة في الجمهوريَّة، وهي بعيدة كل البعد عمّا وصّانا به الرسول صلى الله عليه وسلّم، الذي قال إنَّ خير جنود الأرض في مصر.

وشدّد زايد، على ضرورة ألا تكون هناك أي جماعات متشدّدة في مصر، وكذلك حل أي أحزاب تمّ تأسيسها على أساسٍ ديني، مؤكِّداً أنّ ذلك هو طريق الوصول لبرّ الأمان والنجاة من الفتن الطائفيَّة.
والسؤال الآن: هل تنجح الطرق الصوفيَّة فعلاً في الدور الذي أنيط بها، سواء لاعتبارات دينيَّة أو سياسيَّة؟

تظهر بعض التحليلات صعوبة نجاح هذه التجربة، ففي مقال بعنوان: “هل ينجح المتصوّفون في مواجهة التطرّف؟ نظرة على التجربة الموريتانيَّة، يقول الباحث في الفكر الإسلامي محمد المهدي ولد محمد البشير: “لا أعتقد أنّ التصوّف في موريتانيا يمكن أن يساهم إسهاماً يذكر في محاربة التطرّف، لسببين: فكري وعملي.

السبب الفكري يكمن في أنّ المتطرّفين يستقون مواقفهم من إيديولوجيّة تقوم على العداء العقائدي للمتصوّفة، وهذا ما يجعل مساحة التفاهم بينهم تضيق إلى درجة تبادل التكفير والاتّهامات بالتضليل والتبديع. ويتجلّى ذلك كله في الجفاء الشديد بين التيّارات السلفيَّة والطرائق الصوفيَّة. وما دامت السلفيَّة المتطرّفة أو العنيفة، ومن الأسباب أيضاً التي قد تحول دون تحقّق ذلك حسب صاحب المقال عينه، انخراط كثير من الصوفيَّة في سلك التبعيَّة للأنظمة السياسيَّة.. “عبر الزمن، تحوّلت الطرائق الصوفيَّة إلى جزءٍ مساعد على استمرار الأنظمة السياسيَّة في موريتانيا وإلى وسيلة يلجأ إليها الحكّام أيّام الانتخابات”، ويضيف: ” بعد سيطرة الاستعمار التامّة وتجذّر مؤسّساته الإداريَّة والأمنيَّة والقضائيَّة في طول البلاد وعرضها، أخضعت الطرائق الصوفيَّة والقبائل والإمارات واخترق بعضها وأضعف بعضها الآخر وضُرب بعضها ببعض.

وبعد الاستقلال، ورثت الدولة المستقلَّة الحالة الصوفيَّة وفق المحدّدات السابقة ممّا أضعف أدوارها الإصلاحيَّة وحصرها في أبعادها الروحيَّة والاجتماعيَّة، وحوّلها إلى رافعة سياسيَّة للحكّام يتمّ استغلالها في المواسم الانتخابيَّة والتحالفات السياسيَّة مقابل جملة امتيازات”.

الصوفيَّة بين الهويَّة والاعتدال

وفي بحث تحت عنوان: ” الصوفيَّة بين الهويَّة والاعتدال والإنسانيَّة” طرح الباحث الأمريكي أبو بكر كروليا سؤالاً منطقيّاً حول استعداد الصوفيَّة وقابليّتها للانخراط في المشروع الأمريكي، عندما تساءل: “هل تقوم المجتمعات الصوفيَّة في الغرب والأماكن الأخرى بإعداد نفسها أيدولوجيا لبناء وجهة نظر عالميَّة والانخراط بصدق مع الغرب لوضع إطار أخلاقي ومعنوي لإقامة العدل والمساواة..؟” .. إلا أنَّ الباحث اكتفى بعرض السؤال وأعرض عن الغوص في أعماق الإجابة، تاركاً ذلك للصوفيَّة أنفسهم؟
وانتقل الباحث إلى القضيَّة الأهمّ في الجانب الآخر، ليتناول طبيعة الشريك الأمريكي وفرص نجاح مثل هذه الشركات مع المتصوّفة، فيقول مبيّناً عن حكومة الولايات المتّحدة: “يجب أن تكون واعية لحقيقة أنها شريك في العالم، وأنّه لا يمكن حتى للصوفيَّة التفاوض أو الحوار مع شريك تقتصر مصلحته على بناء عالم من المصلحة الذاتي على أساس الهيمنة والسلطة”. ثمّ بيَّن الباحث أنّ الاستراتيجيَّة الأمريكيَّة- الصوفيَّة صائرة إلى فشل حتمي على المدى الطويل بسبب طبيعة الشريك الأمريكي، حيث يقول: ” سياسة الحكومة الأمريكيَّة لإدماج الصوفيَّة المعتدلة والمسلمين التقليديّين أو الحكومات الصديقة” ستحقّق بعض النجاح، لكن نهجها الأصيل في سياستها السياسيَّة والاجتماعيَّة ليس له استدامة على المدى الطويل لإقناع المسلمين، ذلك بسبب فرط استخدام القوّة الأمريكيَّة التي تضرّ أكثر ممّا تسعى إلى تحقيقه من أهداف ثقافيَّة متعدّدة وأهداف تعدّديَّة للسلام والعدالة”.

إذن، فالمصالح الذاتيَّة هي المحرّك للمشروع الأمريكي طبقاً لما يراه الباحث، وليس الحرص على إشاعة العدل والسلام كما هو الادّعاء؟ فما سيحدّد فرص نجاح “المشروع الأمريكي- الصوفي” هو مدى استعداد الشريك الأمريكي للتنازل عن مبدأ استغلال الآخر وترك الهيمنة والتسلّط في مقابل التعامل مع شريكه بمبدأ النديَّة وعدم الازدواجيَّة والالتفاف. 

ويرى الدكتور عصام البشير الأمين العام لمركز الوسطيَّة والتواصل الحضاري من السودان أنّ الوسطيَّة علاج للتطرّف السلفي والشطح الصوفي، وذلك ضمن برنامج تلفزيوني.

وفيما يتعلَّق بالتنابز بين السلفيَّة والصوفيَّة، يقدّر البشير أنَّ “المطلوب هو تحقيق التلازم بين الظاهر والباطن؛ فأهل التصوّف اعتنوا بقضايا أعمال الباطن مثل الحقائق والرقائق والدقائق، والسلفيّون المعاصرون ركّزوا على ظاهرة الاتّباع، والحقيقة هو المزج بين علم الظاهر والباطن، فالآية الكريمة: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أخذ منها الفقهاء مشروعيَّة طهارة الثوب، وأخذ منها أهل الرقائق مشروعيّة طهارة الباطن، ولكن تلازم الظاهر والباطن هو المعادلة التي عالجها السلف، وعلى هذا كان المتقدّمون من أهل التصوّف مثل بشر الحافي، ومعروف الكرخي، وأبي سليمان الداراني، والحارث المحاسبي، والإمام الجنيد، الذي كان يقول: ” طريقنا هذا مسدود، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا هذا”.

وأخيراً، نشير إلى أهم الكتب التي صدرت في الآونة الأخيرة وتتناول هذه القضيَّة، أهمّها كتاب “الغلو في الدين، على أنّه تضحيات وبذل، أو طاعات وقرب، وما هو غلا إساءة إلى الدين وأهله، ونبذ لتعاليمه وشرعه، وهذا مركب غلو التطرّف والإفراط، ومنها ما هو، تشويه وتحريف، وتلبيس وتدبيس، وهذا مسلك غلو التفريط والتضليل”.

كما أصدر مركز “المسبار” للدراسات والبحوث كتابه الدوري السابع والخمسين لشهر أيلول (سبتمبر) بعنوان “التصوّف المعاصر: أفغانستان، السودان، العراق، إيران” ليكشف عن مدى التنوّع والتجدّد داخل الطرق والتيّارات والمدارس الصوفيَّة، ويختبر مضمون الكتاب قدرة التصوّف على الاستمرار والعطاء في ظلّ المتغيّرات، وما يمكن أن يقدّمه لمكافحة الإرهاب وما يستطيع أن يبرزه من قيم بدأت تنزوي.

جديدنا