الإسلام التنويري

image_pdf

(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) … (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) …( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)

التنوير مهمَّة سماويَّة، ويتَّفِق مع تنوير الفلاسفة من جهة المعنى، فالرسل والفلاسفة يفترضون أنَّ هناك ظلمات، التنوير سبيل للخروج منها، ثم يفترقان في تحديد ماهيَّة بعض هذه الظلمات وماهيَّة بعض سبل الخروج منها.

فلا بأس إذاً أن ننعت الإسلام بالتنوير فنقول (الإسلام التنويري)، فالإسلام الحقَّ لا بد أن يكون تنويريّا، بل إنَّ هذه مهمّته الوحيدة: إخراج الناس من الظلمات إلى النور، إلا أن كل لفظ له كسوته التي تلبّسها من ظروف نشأته، فكسوة التنوير القرآني تختلف عن كسوة التنوير الفلسفي، فالتنوير القرآني جاء لإنهاء الانحراف الديني والفساد والاستبداد؛ قصد الإضاءة للطريق المؤدّي للوعي والعقل وللروحانيَّة والإنسانيَّة المنسجمة مع القانون الطبيعي للخلق، مرتبطا بالغيب والسماء كموجّه ومرشد ودليل، بينما التنوير الفلسفي جاء رفضا لانحرافات الدين والخرافة واللاعقلانيَّة والاستبداد الديني أيضا ولكن مستلهما الأنوار من العقل والعلم والتجربة البشريَّة بعيدا عن توجيه الغيب معتبرا الغيب نفسه وجهًا من وجوه الظلمات والخرافة واللاعقلانيَّة، وهذه أكبر فاصلة نظريَّة بين التنويرَين، فالتنوير الديني يقوم على الإيمان بعالمي الغيب وهو الأهم والشهادة، بينما التنوير الفلسفي جاء ليركز الاهتمام على عالم الشهادة معتبرا عالم الغيب لا إثبات عليه من العقل والحسّ والتجربة.

 وعلى الرغم من أنَّ عمليَّة التنوير هي مهمَّة إسلاميَّة ووحيدة، إلا أن مصطلح (التنوير) مصطلح غربي لم يستخدمه لا القرآن ولا المسلمون، وكل مصطلح له كسوته التي تُلبسه ظروف نشأته وبيئتها، فحين نتحدث عن (التنوير) فإننا نتحدث عن تنوير فلسفي غربي قد مضى عليه قرون تسيّد فيها العالم وأثمر أشكالا كثيرة من النظريات والعلوم والابتكارات والفلسفات وغيرها، حتى لا تجد موضعًا لم يبصمه، فما الحداثة إلا فصلا متقدّما من تاريخ التنوير، بل وما بعد الحداثة، فهذا كله هو من أكسية لفظ التنوير الذي لا يمكن تعريته منها، لأنها هو نفسه وهي وليدته، فكل مذهب أو نظرية أو فلسفة أو علم غير مجرد هو مكسو بروح عصر الأنوار الأوروبي، سيأخذك بعيدا عن عالم الغيب ويقيّدك بعالم الشهادة، بل حتى العلوم الطبيعيَّة والمجرَّدة ستجد أن روح الابتعاد عن مزاعم الغيب تهيمن عليها، فالعلم لا يعدّ علما حتى يكون حسّيّا خاضعا للقياس، لا مجال للحدس.

انها تذكّرك وهي تتطوَّر حدّا يجعل العلم مقتصرا على التجربة والبرهان الحسّي أو الرياضي، ببني إسرائيل وهم يشترطون رؤية الله جهرة كي يؤمنوا، فذهابه للجبل ورجوعه بكتاب أمر غير كافٍ لبلوغ العلم.

 فكذلك الحداثة (وارثة الأنوار) تريد لتؤمن أن ترى الله جهرة، أو أن تخضعه لقياسات الأجهزة والمستشعرات، وإلا فهو غير معلوم الوجود، وكل من يزعم لقائه فهو بلا دليل، وكل نص يزعم أنه منه؛ لا برهان عليه، بل لم تعد هناك حاجة للآلهة، فكل ما حكمه قانون فربه قانونه، وما من شيء إلا ويحكمه قانون، والإنسان وقد اكتشف القوانين؛ الآلهة الحقيقيَّة للظواهر، وسخَّرها لمصلحته صار هو الرب. قد مات الإله وتألَّه الإنسان!

العلم هو سامري الحداثة، قبض القبضة فنبذها، وبصر بما يبصروا به، السامري أخرج العجل وأسمع الخوار فطلب السجود ونادى هذا إلهكم، إنه ينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، والفلك تجري في البحر بإذنه، وطيره في السماء صافات ويقبضن …الحداثة تستغني عن هارون وتنسف الألواح، وتعيد مقولة لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة!

أما نحن فأطفأنا المصابيح، وخرجنا من النور، فظلماتنا بعضها فوق بعض، من أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

الأنوار الغربيَّة بحر من الأفكار والفلسفات والنظريَّات والمناهج تتوالد دونما توقُّف منذ أن بزغت أنوارها قبل قرون، ونحن أمَّة تبع نتأثَّر بكل فكرة وفلسفة ونظريَّة ينتجها الغرب، وهذا أمر طبيعي بالنظر لفارق التقدُّم بينهم وبيننا، بل أحيانا تولد أفكارهم عندنا بعدما تموت في الغرب أو تحتضر نتيجة الفارق في حركة التسارع الثقافي، الأمر الذي نقل لنا كل اختلافاتهم وخصوماتهم وانقساماتهم، مع فارق أن هذه الخصومات قد لا تتحوَّل عندهم لحروب ومواجهات بسبب استقرار أحوالهم السياسيَّة والاقتصاديَّة، على عكس ما عندنا، فعندنا كل قول جديد يعني خصومة جديدة، إما بين (التقدّميِّين) بمختلف توجّهاتهم، أو بينهم وبين (الرجعيّين)، أو بين (الرجعيّين) أنفسهم، عالم من الخصومات، متسلِّحة جميعها بنكهة من روح (الفرقة الناجية).

هذا إن وقفنا في حدود المقارنة العقديَّة النظريَّة، وأمّا إن توسّعنا في الكلام بحثا وراء الآثار العمليَّة التي خلفها ولا يزال عالم الأنوار الغربيَّة وسلالته حتى الحداثة فسنجد أفعالا جبروتيَّة تتزامن مع أفعاله الجبارة في مجال العلم، فهي صاحبة الدواهي العظمى التي لم تتمكَّن حضارة أخرى قبلها فعل ما فعلت وجناية ما جنت، فهي الأعظم في كل المساوئ، أعظم الحروب وأعظم التدمير، وأعظم الاستغلال للضعفاء وللحيوان والنبات والبيئة، وأعظم في التمييز العنصري، وأعظم في الإسراف في الاستهلاك على حساب الموارد، وأعظم في الاستعمار واستغلال الشعوب، وأعظم في المكر والكيد والظلم، بل قل هي الأعظم في كل سيئة عرفتها البشرية، وعلى يدها ستكون أكبر كارثة منتظرة تدمر كل شيء، هذا ما تقوله هي عن نفسها، أو ما يقوله حكماؤها عنها، فلا ينبغي على دعاة الأنوار التغافل عن نصفها الفارغ هذا.

 فلا شك أن التنوير الغربي وقع وأوقع العالم كله في هاوية أخلاقيَّة وعن قصد، فقد أعمتها العداوة المستفحلة للدين والغيب عن التبصُّر في الآثار الايجابيَّة للأخلاق والفضائل على الحياة كلها، فعظّمت فعل الشيطان في المعصية على أنه الحريَّة، ولعل هذا التحريف المتعمَّد لمفهومي الحرّيَّة والسعادة هما أكبر عوامل التدمير في الحضارة الغربيَّة.

نحن نظن حين نحاكم الأفكار أنها تستمدّ حجّتها من الداخل، وعلى هذا يقتتل المثقّفون والعلماء والمفكّرون والأساتذة ورجال الدين…، ولكن تاريخ الفكر أثبت ولعديد من المرّات أن قوَّة الأفكار في الميادين تأتي دائما من الخارج، من سلطان السياسة والمال والرأي العام، فكل فكرة تحظى بهذا الثالوث فهي الأفضل والأقوى برهانا، وستجد لها (إذا جاء أوانها) من المفكّرين والعلماء والفلاسفة ومن يدعمها بالبرهان والحجج ويروّج لها ويؤلّب ضدّ خصومها، وسيرون هم قبل العوام حكمتها وصدقها وبرهانها.

 إنه السامري مرَّة أخرى، فمهما كانت الفكرة عجلا جسدا، فالمفكّرون أذكياء بصروا بما لم يبصر به العوام، وسيُنطقون خوارَها ليُسجدوا الناس، وكذلك يفعلون.

اقرأ تاريخ الأفكار وستجد هذا جليا، فالأفكار كالموضات؛ يقبل عليها الجميع برضا وإعجاب في أوانها، حتى إذا انقضى انصرفوا عنها بفرح وسرور، وأقاموا الاحتفال على جثتها كما أقاموه قبلا على زفافها! فلكل (فكرة/ دعوة/ فلسفة…) حفلتان؛ يوم القدوم ويوم الفراق، يوم زفافها وحين تدفن!

ينقلبون للاتّجاه المعاكس ضدّها وكأن شيئا لم يكن، العلماء والفلاسفة والمفكّرون والأساتذة مع غيرهم من العوام، إذ لا أحد يستطيع الوقوف في وجه فكرة جاء أوانها، وأوانها أن يؤمن بها السلاطين الثلاثة: سلطان السياسة وسلطان المال وثالثهما مارد القمقم سلطان العامَّة (الرأي العام)، ولهذا فالمفكّرون المنفردون التغييريّون عليهم بالصبر ثابتين، وانتظار حركة التاريخ أن تأتي بأوانهم، فإذا جاء أوانهم تساقطت العقبات سراعا، وإلا فلكل فكرة قوّتها في الحجاج والبرهان، ولها فلاسفتها ورجالها مهما كانت شاذَّة وتافهة.

ترى أين ذهب مفكِّرو الشيوعيَّة واليسار بعد سقوط الاتّحاد السوفييتي؟ وأين ذهب دعاة القوميَّة؟ والبعثيّون؟  ومضّطهدو النصارى قبل قسطنطين؟ وحماة الأصنام قبل الفتح؟ وأين ذهبت حجج المعتزلة أيام المأمون؟ وكيف تفوقت حجج السلف أيام المتوكل؟ كلها إلى اليوم بئر معطلة وقصر مشيد! ولكن لا مستسق ولا قاطن!

كل فكرة أو نظريَّة أو فلسفة فهي عادة تقوم على وجه صائب، ولكن ولقصور عقولنا عن أن تحيط بالجوانب الأخرى فضلا عن تقصيرنا فإنها كلها كمنتج عقلي بشري تأتي دائما بضغث من صواب وضغث من خطأ، فيحدث أن مقابلينا من الناس يبصرون ضغثنا الخاطئ الذي قصرنا أو قصَّرنا عن رؤيته، كما قد قصروا أو قصَّروا عن رؤية الوجه الصائب الذي أدركناه، ولأن الناس تحبّ التعصُّب لذاتها وأفكارها ينشب الخلاف وتدبّ الخصومة، وأهونها ما كان بين العلماء والفلاسفة والمفكّرين الذين لم تتحوَّل آراؤهم مذاهب وعقائد، وأشدها خطرا من قد حظيت بشارع من الناس يقدّسها ويتعصَّب لها كما حال المذاهب، ولقد سُفكت من الدماء وانتُهكت من الحرمات ما لا يحصيه إلا الله بسبب التعصُّب هذا.

فأوّل واجبات التنويري المسلم ألا يعيد بالتعصب نار تلك المفاسد، وأن يعلم أنه كما الآخرون أدرك وجها من العلم وغابت عنه وجوه، فلا يتعصَّب ولا يدَّعي الكمال، فيستصغر هذا ويشتم هذا ويخاصم هذا ممن خالفوه الرأي، لئلا يكون من الجاهلين، فالحياة قد جرَّبت فشلا متكرّرا للنظريَّات والأفكار والدعوات، وعرّفت للناس أن تبادل الرأي والشورى أكثر بركة.

الإسلام التنويري لمّا يزل بويضة تفقس، أو وليدا يحبو، أو رمادا يريد القيامة فينيقيا، فالإسلام نفسه لم تُرَ أنواره، طلع شمسا في سماء ملبَّدة، ما أن أشرق حتى خُسف به، فأنواره لم تسع بعد بين يدي الناس ولا بأيمانهم، وقرآنه بعد لم ينزل على جبل القلوب، إذا لرأيتها خاشعة متصدّعة من الخشية، وقد غطاه من التاريخ سحاب من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، من أخرج يده لم يكد يراها.

 ومشكلة التنوير العربي أنَّ مصابيحه غربية، ومستعار المصابيح لا يأتي إلا بأكسيته، فهي مصابيح تضيء بقعا وتظلم أخرى بشكل تلقائي، ترى ما تريد وتعمى عما لا تريد، وأعظم ما لا تريده الغيب؛ أعظم ما نريده!

ولهذا فالحديث عن مفهوم (الإسلام التنويري) من الممكن أن يُتناول من رؤيتين، رؤية الفلاسفة ورؤية الأنبياء، طريق الفلاسفة وطريق الأنبياء، إذ هناك كثيرون  تأثَّروا بالمناهج الفلسفيَّة كحركة التنوير والعلمانيَّة والليبراليَّة ومذهب الشكّ، والتشكيكيَّة، والعقلانيَّة، وكلها قائمة على تحليل الخطاب الديني والتراثي كخرافة وظلمات وقيود لحريَّة التفكير وحرّيَّة الحياة والمجتمع، الأمر الذي أدّى إلى ظهور مذاهب وفرق وكتل متعارضة ضدّ أنفسها، وامتدَّ هذا التأثير (لما له من هيمنة عالميَّة) للمصلحين الإسلاميّين الذين سلكوا متأثِّرين بالفلاسفة هذه الوجهة الإصلاحيَّة بقدر أو بآخر.

ومهما يكن من أمر فإن ساحة الجدال الفكري هذه قليلة البركة، كثيرة الخصومة، سطحيَّة الأثر، ملتبسة ما بين (فإن قلتم)؛ (قلنا) لا تطهر من ورائها، إذ الإنسان أكثر شيء جدلا.. ولهذا فلنضرب لنا طريقا يبسا بين فِرقي الطودين لئلا نغرق، فما هو هذا الطريق؟ وما عصاه؟ نتساءل.

هل من سبيل لطرح إسلام تنويري بعيدا عن جدل الخصومات الموروثة من الأسلاف أو تلك المكتسبة من تأثير التنوير الغربي؟ هل من إسلام تنويري فعَّال؛ يُخرج من الظلمات إلى النور دونما خصومات، ودونما وقوع في شرك الإلحاد والسقوط الأخلاقي والجمود؟ هل من إسلام تنويري يتمتَّع بالثبات على مرِّ الزمان ولا يختلف اثنان في أنه صواب وهدى؟ هل من إسلام تنويري لا يمكن لمسلم أو لغير مسلم إلا أن يقول إنه حقّ؟ هل من إسلام تنويري وثابت وقادر على ردّ كل من تزل به القدم في رحلة التنوير لجادة الصواب؟

 نتساءل: ما هو جوهر الإسلام لنعرف طريق التنوير إليه؟ هل هو هذه المدوّنات بين أيدينا؟ هل هو أحكام الشريعة والفقهاء؟ هل هو الحديث ورجاله وعلومه؟ هل هو التفسير؟ هل هو المذاهب؟ هل هو الطرق الصوفيَّة؟ هل هو الخلافة والسياسة؟ هل هو في شيء ممّا نحن عليه من موروث وواقع؟

نفهم أنّ الدين عند الله هو الإسلام، وهو رسالة الأنبياء جميعا، فما الذي يجمع بين الدين كله عبر امتداده مع البشر؟ ما هي المركزية التي لم تتغيّر عبر كل المسيرة؟ ما هي الثوابت؟ ما هو الهدف المركزي من كل الحراك الديني النبوي؟ إذا حدّدنا ذلك فقد حدّدنا المركزية التي لا ينبغي أن تصرفنا الظروف عنها مهما تبدَّلت، وبالتالي حدّدنا جوهر التنوير الديني.

كل هذا الذي بين أيدينا من التراث الذي نتنازع فيه أو جلّه هو متغيّر، ولكن قبل تغيير المتغيّر ينبغي معرفة النور الثابت والكلمات الأبديَّة من الدين التي مهما حالت الأحوال ودالت الدول فإنها لا تتغيّر، إنها أبديَّة إنسانيَّة فوقانيَّة روحانيَّة، فما هي؟

أغلب أحكام الفقه لم تكن يوما إلا متغيِّرة، ولم يفتح فيها الاجتهاد ليأتي من يزعم ثباتها، ولم يثبت منها ثابت إلا بثبوت باعثه الأم وهو الفطرة والطبيعة، كتحريم كل ما غلب على العقل من مطعوم ومشروب ومشموم ومسموع ومنظور وغيره، فالحكم الثابت هو وجوب الحفاظ على العقل في اتّزان قادر على الحكم الموضوعي، وكل التفاصيل متغيّرات لا ثبات لها، فإن تمكَّن الإنسان من صنع خمرة لا تخامر حلت له، ولو تمكن من عزف لحن يورث الصرع لحرم عليه، فالتشريع يظل عقلانيّا فطريّا ظرفيّا متغيّرا يدور حول ثوابت وكليات وحدود محدّدة كحافتي طريق.

فمثلا أحكام اللباس هي كذلك منذ أول يوم، فللمؤمنة الحرَّة الحاضرة لباس وهو الحدّ الأعلى المفروض على نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين ممَّن تحمل عبأ الرسالة، وللمؤمنة الحرة البادية لباس وقد كان أخف تقيّدا من المؤمنة الحاضرة، وللمؤمنة الأمة لباس؛ أوجب فيه المسلمون عليها ألا تتشبه فيه بالحرائر، وللمؤمنة المسنة لباس؛ حيث أباح الله لهن أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، ولغير المؤمنات لباس؛ حيث أبيح لهن لبس ما تعارفوا عليه في ثقافتهن، كل بما يوافق حاله وظرفه وثقافته، هذه أحكام الفقه التقليدي لا التجديدي. فقضايا التشريع والإدارة والتدبير تفترض التغير دائما بما يناسب بين الحكم والموضوع، ولا جدوى ولا فاعلية في غير ذلك، ولا اعتبار للتقاليد.

نحن واقعون تحت تأثير هيمنة التنوير الغربي، الخصيم للدين بعمومه، وللنصّ بعمومه، وللغيب بعمومه، فلا بد من أن يكون تنويرنا واضح الثوابت لئلا تزلّ قدم بعد ثبوتها، بل تثبت بعد زللها. فما هي ثوابت الأديان السماوية؟ هل هي التشريعات؟ بالطبع لا، هل هي التنظيمات الإداريَّة في السياسة والاقتصاد والضرائب؟ أي ما يمكن أن نسمّيه (أمرهم) الذي جعلت الشورى طريقا لإدارته؟ بالطبع لا. فالأديان إنما تقوم على الإيمان والقيم التي تزكي النفس وتصلح العمل للدنيا فيكون صالحا في الآخرة.

لنعد للبدايات، عند أوّل الرحلة، كيف قطعنا التذاكر؟ وإلى أين السفر؟ وما هي العدّة؟ لقد جئنا من سلالة همجية نبتت من الطين كالحشيش، ثم تناسلنا ذكورا وإناثا، ثم أعيد تخليق أبوينا آدم وحواء في الطين ومن الطين، ووهبنا عقلا منطقيا جبارا، ثم – وهنا جوهرتنا – نفخ فينا من روح الله، فعرفنا بها القيم والفضيلة وميزنا الحسن والقبح، فتميّزنا عن الهمج بهذه الروح، فصرنا منذ أبينا آدم (أوّل إنسان عاقل)، مشغوفون بالمعرفة، محبّون للعلم والابتكار والاكتشاف، مقدّرون للقيم السامية، بعدما كان آباؤنا الهمج لا يعرفون من هذا شيئا.

فنحن كُرّمنا بهذه النفخة، وبها صرنا نعرف الله تعيّنًا كأسماء حسنى، حتى وإن لم نعرفه تعيينا، فنعرف جمال الخير وقبح الشر، فالعلم جميل والجهل قبيح، والعدل جميل والظلم قبيح، إلى سائر القيم التي لولاها لما ثبت دين وما قام علم.

وقد اقتضت طبيعة المشروع الرباني في الإنسان أنّ القابليات الهمجيَّة قد وقع واجب التخلّص منها على إرادتنا، وهي واجبنا الرباني الأوحد، وقد راهنت السماء على أننا بالعقل ونفخة الروح قادرين على التحوّل من درك الهمجيَّة لدرج الإنسانيَّة بالروحانيَّة،  وكل حيثيات الدين إنما هي وسائل للخلاص من الهمجيَّة والتمثّل بالروحانيَّة، التشكُّل وفق النفخة، التكون الروحاني الإرادي، التطوّر فوق لوازم البشريَّة لمتطلّبات الإنسانيَّة، الخروج من هيمنة الغرائز إلى هيمنة القيم، حيث يكون العقل خادما للروح في الهيمنة على العواطف، على عكس الهمجيَّة التي تهيمن فيها العواطف على العقل ضدّ الروحانية.

ولغرابة المشروع لم تعقله الملائكة بادئ ذي بدء، فهم العارفون بمستوى الفارق بين الحالين، وعظم على نفس إبليس أن يتحوّل الوحش الجاهل المفسد النتن إلى قدّيس، فراهن على فشل المشروع، والمعركة محتدمة من يومها.

وعليه يمكن تعريف الإسلام التنويري بأنه الإسلام الذي يعمل على إخراج البشر من أخلاق الهمجيَّة للأخلاق الروحانيَّة، من المكوث في البشريَّة للعروج للإنسانيَّة، من هيمنة الغرائزية للهيمنة القيمية، من التحرّر من المسؤوليَّة للتحرّر بالمسؤوليَّة، من العشوائيَّة ضدّ نظام الطبيعة للانسجام مع نظام الطبيعة. أو هو الذي يقوم على إتمام مكارم الأخلاق، وهو العنوان العريض الشامل للنبوّة المحمّديَّة.

بالطبع الهمجيَّة المعاصرة ليست كالهمجيَّة القديمة وحشية في الظاهر والباطن، بل هي اليوم في غاية التمدن، وغاية الاقتدار، وغاية الأناقة واللباقة والذكاء، ولكنها مع كل ذلك متوحّشة، ثياب على ذئاب.

 ولنعرف التنوير علينا أن نقارن الروحاني مع الهمجي، الظلمات والنور، فيكون التعريف عمليّا على سيرة الأنبياء والرسل وطريقتهم الواضحة في البلاغ، فمن هو الهمجي ومن هو الروحاني، فإذا فعلنا كان الإسلام التنويري هو العامل على نقل الإنسان من الهمجية والتوحش إلى الروحانية والإنسانية، (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.)

الهمجي هو من يرغب فيما لا يستحقّ، ويتصرَّف بدون أخلاق، ويقوم بما لا يجب، بينما الإنسان الرُّوحي يلائم سلوكه ورغباته مع تناسق الكون، فمن البديهي أنَّ هذا الإنسان لا يمكن أن يعمل سوءًا ولا أن يسلك رذيلة، لأنَّه تعهّد بالوفاء لروحه، وتشبَّث بالأخلاق.

إنَّ الإنسان الرُّوحي لا يخترق أبدًا حقوق النَّاس، ويعطي لكلٍّ ما يستحقّه، ويحترم العدل دائمًا. أمَّا الهمجي فهو خارج القانون الطَّبيعي، لأنَّه لا يحترم القواعد الأخلاقيَّة للكون، ويرغب فيما لا يستحق، ولن يكون شريفًا مع نفسه ويتصرَّف بظلم، ولا يحترم حقوق الغير، ويزرع الكراهية والحقد والحسد، ويتحكّم فيه الجشع الحيواني، ويتعسَّف مع الضُّعفاء، ولا يتحمَّل مسؤولية أعماله، وينهب كلَّما استطاع ذلك، ويبحر في الحياة لا بوصلة معه ولا اتّجاه، إلا الذي تقوده إليه رغباته وشهواته.

الهمجي هو:

  • من يريد أن يحقِّق شيئًا لا يستحقّه، أي أنَّ ما يريده يفوق بكثير ما يستحقه.
  • من يكذب ليتوصَّل إلى تحقيق مصلحة شخصيَّة.
  • من يخادع محولًا سلوكه إلى احتيال.
  • من يريد أن يفرض رأيه على الآخرين بالقوَّة.
  • من لا يحترم حقوق الغير.
  • من يملك ظاهرًا يختلف تمامًا عن نفسيته الحقيقيَّة، ويستغلّ بظاهره الآخرين.
  • ·       من تتحكَّم فيه شهواته فيحاول تحقيق رغباته التي تمليها عليه.
  • من له دوافع لا شعوريَّة قذرة، ولو لم يفطن لها.
  • من يريد أن يأخذ دون أن يعطي.
  • من ينافق
  • الشُّرطي الفاسد.
  • القاضي المرتشي.
  • ·       المُرابي.
  • ·       المحتكر.
  • ·        الغاصب.
  • ·       رجل الدَّولة الذي يبحث عن السُّلطة والرُّبح.
  • ·       الموظَّف العمومي الذي يُعرِّض بتهاونه في عمله أمن النَّاس للخطر.
  • ·       من يخدع النَّاس بالخطابات السِّياسيَّة.
  • ·       المهني (العامل) غير الشَّريف في عمله إذا ما خدع زبونه أو عرَّض للخطر حياته أو ممتلكاته وحرّيته.
  • ·       من يحمي ويدافع أو يسمح للإجرام والجناية.
  • ·       من يشع طاقاته المسمومة في الناس.
  • ·       من يستعمل الافتراء لمهاجمة شرف الغير.
  • ·       من يتاجر بشقاء الغير.
  • من يعرِّض أمن شخص للخطر أو يهدِّد السَّلام في الحياة.
  • ·       من لا يحترم حرمة العقل فيعبث في عقول النَّاس ليجبرهم على تصرُّف معين.
  • من يقوم بأعمال تؤذي الطَّبيعة.
  • ·       من يغشّ في الغذاء أو الدَّواء.
  • ·       من يهرَّب المخدرات أو يبيعها.
  • ·       من ينشر الإباحيَّة وتجارة الجنس.
  • ·       من يغتصب الأطفال ويفسدهم.
  • من يرتكب قسوة ضدَّ الحيوان.
  • ·       من يسمِّم الماء أو الهواء.
  • ·       من يتسبَّب في كوارث طبيعيَّة أو يحمي الاعتداء على البيِّئة بمقابل الرُّبح.
  • ·       من يتاجر عن علم في مواد غذائيَّة أو أدوية غير صالحة أو ملوّثة.
  • وقس على هذا…   

(وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)، فما لم تكن استقامة أخلاقيَّة فلن تكون استنارة تستنقذ الدنيا والآخرة.

جديدنا