الواقع العربي.. سرّ صناعة الفشل المتكرِّر

image_pdf

“وضعوني في إناء
ثمّ قالوا لي: تأقلم
وأنا لستُ بماء
أنا من طين السماء
وإذا ضاق إنائي بنموي يتحطَّم”
الشاعر أحمد مطر


باعتقادي أنّ سرّ صناعة الفشل المتكرّر والخيبات والنكبات المتلاحقة التي يزخر بها عالمنا العربي والإسلامي بشكلٍ عام وعلى أكثر من صعيد، وعدم قدرته على استثمار الفرص التي توفّرت لديه وما زالت لصناعة حاضر مقبول والسعي لمستقبل أكثر قبولاً، كل ذلك يكمن في مجموعة متشابكة من العوامل التي تؤدّي بمجملها إلى مثل هذا الواقع الذي لا يلبث أن يخرج من أزمة حتى يقع فيما هو أفدح منها في تكرار درامي للمأساة.

ولعل التراث الذي يحكم وعي العربي والمسلم بشكل عام هو أهم أسباب هذه المعضلة، ذلك التراث الذي تعوّد الإنسان من خلاله أن لا ينظر في أعماق ذاته ولا يفكِّر بما يعنيها وما يرتبط بحاجاتها الوجوديَّة ولا بالقوانين التي تحكمها وتتحكّم بعلاقتها بالآخر بقدر عيشه خارج الذات منغمساً في “لاهوت عربي” ينفخ فيه نرجسيَّة صاحب المجد التليد والرسالة الخالدة والشرف الرفيع، مشغولاً بالآخرة أكثر من الدنيا وبأمور الخلافة والإمامة وجهادي (الدفع) و(الطلب) أكثر من مجرّد التفكير ببناء سلطة لها شكل الدولة على الأقل، فكل ممالك العرب الحاليَّة ليست سوى قبائل تزين خيامها بشعار الديمقراطيّة.


من جهة أخرى تلعب السلطة السياسيَّة التي هي صنيعة التراث الذي حرَّم ثقافة النقد والحوار والانفتاح على الآخر بدعوى شقّ “عصا المسلمين” و”عفا الله عمّا سلف” و”الحفاظ على وحدة الأمَّة” التي لم تتوحَّد يوماً إلا بإسكات الصوت المخالف وخنقه إلى الأبد .. تلك السلطة التي تتحكَّم بجميع مقدرات الناس وتحصي عليهم أنفاسهم، لذا حين يحصل تغيير ما فهو دلالة على أن حجم الضغط وصل حدّ الانفجار، والنتيجة أن ما يتبع الانفجار هو فوضى وخراب ودما. فالتحولات الاجتماعيَّة في عالمنا العربي والإسلامي عادة ما تكون من هذا النوع، لم تكن في معظمها وليدة دراسة معمَّقة متأنية لظروف وأسباب الأزمات والبحث عن حلول حقيقيَّة وعمليَّة مستندة إلى تأصيل وتنظير ممن يضطلعون بمهام التغيير والتحول هذا إذا صلحت وصحت نواياهم بالأصل، معظم التحولات في عالمنا ردود أفعال لما يحدث في الداخل أو أصداء لما يحصل في الخارج، وهي في معظمها ارتجاليَّة أشبه ما تكون بالسلوك الغريزي الذي يحفّزه الخوف أو الطمع.

الأدهى من ذلك أن منظومة القيم التي عادة ما تصنع وعي الأمم على مستوى الأخلاق والسلوك كقيم الدين والجمال وقدسيَّة الحياة والعدالة والحرّيَّة وحقوق الإنسان وحبّ المواطن والوطن وما شابه والتي تشكّل ضمانة التحوّل المرتجى، كل تلك القيم لم تعد سوى أوهاماً في وعي معظم الشعوب العربيَّة بعد أن اختصر الرئيس العربي أو الحزب الحاكم كل الوطن باسمه وأصبح البشر لديه عمّالاً يُحسن إليهم حين يدفع لهم أجرهم قبل أن يجفّ ماء الحياة في أفواههم. قيم الجمال هي الأخرى قتلها المثقّف العربي بعد أن أصبح طبالاً على باب السلطان والزعيم العربي، وإما قيم السماء فذبحتها الأصوليَّة الدينيَّة بفقهائها ومتكلّميها وأحزابها وميليشيات كالدواعش باعتبارها أحدث نسخها وآخر إبداعاتها.

واقعنا هو بالضبط ما صوّره الشاعر المبدع أحمد مطر في أبياته التي مثّلت افتتاحيَّة هذا المقال. فنحن كنا وما زلنا نئن من تلك الأواني التي تغلّف عقولنا قبل أجسادنا والتي يطالبنا صنّاعها أن نتأقلم ونرضى بقدرنا، ولكن للصبر حدودا ولطاقة التحمّل مستوى، وحين لا يصبح الإناء قادراً على احتواء الضغط أو لكون ذلك المغيّب في تلك الأواني العربيَّة قد ازداد نموّاً على حين غرّة فساعتها يحدث الانفجار، ولكن النتيجة أن يتحطّم الإناء بما فيه ونعود لحالة من الفوضى نتمنّى معها العودة لذلك الإناء الذي حلمنا يوماً أن نخرج منه.


وفي مثل هذا الواقع لا يؤمّل كثيراً على التحوّلات التي تحصل في المنطقة كونها وليدة آنية ضغط حدّ الانفجار وببراءة اختراع عربي له رجالاته وتاريخه الطويل، ولهذا فهي كالوليد الذي يخرج بولادة غير طبيعيَّة تنقصه المناعة ضدّ أبسط المؤثّرات الصحيَّة، فلو كانت تلك التحوّلات محصّنة بوعي مجتمعي عالٍ وثقافة نخبويَّة حقيقيَّة وقيادات نابعة من وجع الشعوب لما اختطفتها الأصوليَّة السلفيَّة من جهة ومن يملكون الدولار من جهة أخرى.

ففي النموذج العراقي للتحوّل والذي حصل بقدرة (القاهر) الأمريكي بعد مشيئة الله طبعاً وفي فرصة تاريخيَّة تعتبر، رغم فداحة خطوبها، ذهبيَّة لو أحسن استغلالها، وقد كانت تتمناها معظم شعوب المنطقة بلا شكّ. غير أن ما حصل أن البلد قد خرج من قبضة حاكم مطلق يرى نفسه إلها ليدخل في تيه ودوامة التعدّديَّة الحزبيَّة بنموذجها العراقي المخجل والذي لم يتمكَّن طيلة ما يزيد على العقد من الزمن أن يحمي أرواح الناس أو ممتلكاتهم، فضلاً عن تحوّل البلد إلى ساحة مفتوحة على الصراع الدولي والإقليمي ولمافيات القتل والفساد بسبب افتقار تلك الأحزاب للاستقلاليَّة وارتباط مصالحها بهذه الدولة أو تلك. والأخطر من كل ذلك أن شخصيَّة الفرد العراقي التي تحمل في تركيبتها الكثير من المتناقضات قد ازدادت تناقضاً وتشرذماً وظلاميَّة نتيجة لخيباتها المريرة بمن كانت تنتظر الخلاص من عقود الجوع والقهر والاستبداد والقتل الجماعي.

فالمتأمّل للواقعين السياسي والاجتماعي في العراق وبعد العديد من الدورات البرلمانيَّة لا يسعه سوى أن يشعر بالخيبة والخجل مما يجري، فتركيبة مجلس النواب ومجالس المحافظات ومستوى أداء أعضائه تعكس المدى الذي وصلت إليه شخصيّة من يحكمون العراق (الجديد) وما بلغه ثمن الدم العراقي في بورصة مزايداتهم ومساوماتهم السياسيَّة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يستطع الشعب أن يعرف قيم صوته وموقفه بعد. فلا تزال تلك الأحزاب، ورغم خيباتها المتكررة وفسادها المالي والإداري والتشريعي، ورغم طوفان دمه الجارف والخراب الأمني الذي وصل حد سبي العراقيات وبيعهن جواري في أسواق دولة الخلافة السلفيَّة، ما زالت تلك الأحزاب تخدعه بلافتات الدين والمذهب وتلهيه بدوامة من العنف والأزمات التي لا تمنحه حتى الفرصة ليرى ما تحت قدميه.

لقد أصبح التحوّل في العراق مأزقاً وكابوساً بعد أن كان المؤمّل أن يكون حلاً وحلماً ولجميع الأسباب التي ذكرناها. لقد أثبتت العيّنة العراقيَّة بما لا يقبل الشكّ أن بلداننا لم تصل بعد مرحلة التفكير في إيجاد مناخات حقيقيَّة للهم الفكري والثقافي بغية خلق وعي سياسي حقيقي يدرك أن السلطة مغرم أكثر منها مغنماً وهي أمانة ومسؤوليَّة في منتهى الخطورة وليست لعبة رخيصة تصل حدّ المتاجرة بأرواح الناس وبمستقبل الأجيال.

إشكاليَّة السلطة لا تزال عندنا المعضل الأول الذي تنبع منع معظم أن لم نقل جميع مشاكل وأزمات حياتنا التي لا حدود لها، وهذا هو الفرق بيننا وبين العالم الآخر الذي عرف تماما كيف يفسّر قوانين الحياة لصالحه ويجد الحلول الناجعة حتى لأشد مشاكله وأزماته تعقيداً. ذلك الآخر الذي لم يجد ولاة أمرنا الخائبين سوى أن يتّهموه بالتآمر علينا، وخو حتى إذا فعل وربما من حقّه أن يفعل فالحياة لعبة مصالح، كما هو منطق السياسة الأبدي، لكنهم لا يفقهون حتى كيفيَّة اللعب بورقة المصالح رغم امتلاك بلداننا لأكثر تلك الأوراق تأثيرا.

ما يصنع وعي الشعوب ويسلّحها بالمعرفة والإبداع والاستقلاليَّة هو العلم والتفكير النقدي والاستقرار السياسي المستند إلى مناهج تربويَّة وإعلام حرّ وفضاء من الشعور بالمساواة والعيش الكريم وتوفر مستلزمات الحياة الضروريّة، وكل ذلك لا يوجد في عالمنا بشكلٍ عام، فجميع بلدان العالم العربي، مقارنة بالبلدان المتقدّمة وحتى النماذج من البلدان النامية نموّاً حقيقيّاً، لا تملك حتى الآن مشاريع تنمويّة واعدة ولا خطط اقتصاديَّة أو إصلاحيَّة ذات قيمة، فدول الخليج التي تعدّ أكثر بلداننا رفاهيَّة إنما تعيش على البترول يبيعه الحاكم فيقسمه أربعة أخماس له ولقبيلته السياسيّة أو العرقيَّة وربما الدينيَّة حتى وما تبقى يهبه للشعب. ولو حدثت أزمة اقتصاديَّة من نوعٍ ما أو نضب البترول سيصبح معظم من في تلك البلدان عاطلين عن العمل بعد عقود الرفاه تلك. ومما لا ريب فيه أن شعوب المنطقة هي من تصنع حكّامها فيمكنك أن تعرف مستوى الحاكم حين تدرك مستوى تفكير الشعب الذي يحكمه.

تقول الدكتورة سوسن كريمي أستاذة الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة الثقافيَّة وأثنوجرافيا الجندر في مشاركتها في ندوة اليوم العالمي للفلسفة والمنشور في صحيفة “الوسط” البحرينيَّة في عددها 4473 في 16/12/2014 ما نصّه: أنَّ ” الإنسان الخليجي غير مستعدّ للتنازل عن رفاهيته يريد أن يظل متدغدغاً في المادّيّات، وبمراجعة بسيطة ليوميّات أي طالب أو إنسان عربي أو خليجي أو بحريني، ما هي أولويّاته في جدول يوميّاته؛ أين الهم الفكري أو الثقافي، أين الوعي السياسي؟ حدُّ المثقَّف والمتعلّم أن يقرأ بعض الصحف والمقالات، ونحن كأفضل مؤسّسة علميّة ممثّلة في جامعة البحرين طلبتنا لا يقرأون، وتعليمنا لحدّ الآن لا يخلق طلبة مبدعين فكريّاً، وأحراراً ذوي أفكار ناقدة..” ثمّ تواصل قائلة: ” الإنسان الخليجي غارق في المادّيّات وبدراسة أو عمليّة مسح لأي من المسلسلات أو الدعايات للمرأة أو الإنسانة الخليجيَّة نرى أي نوع من القيم يتمّ تسويقها. هل يحملون همّ الإنسان أو همّ المرأة أو المشاكل الموجودة في المجتمع؟ بكل أسف أقول مجتمعاتنا عالة على المجتمع الإنساني من ناحية المعرفة والإنتاج بمختلف أشكاله. نحن نستهلك من الآخرين المعرفة والأكل وكل شيء ولا نعطي الإنسانيَّة أي شيء، بل البعض يرانا مصدراً لخراب الأمم، والأدهى من ذلك أن معظم الإرهابيّين الخطرين يخرجون من تلك الدول وأكثر الخطابات تطرّفاً وتعصبّاُ تبث على الهواء من فضائيّات تلك الدول، ورغم تقدّم دول تلك المنطقة مادّيّاً وعمرانيّاً لكن يمكن لنا أن ندراك مقدار همّها الفكري في عصر العولمة حين نسمع بين الفينة والأخرى أن مؤسّساتها تناقش وبحماس لا نظير له مسألة هل يسمح للمرأة أن تسوق السيّارة أم لا، وهل يمكنها السفر دون محرم!! وقد تداولت مواقع التواصل الاجتماعي وبسخريَّة مريرة تصريح مساعد مفتي سلطنة عُمان، وهو خرّيج جامعة أكسفورد البريطانيَّة، والذي يحذّر فيه الشباب من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لأنّ (الكفّار) هم من يديرونها”.

وخلاصة القول إن في مشهد كالذي مرّ بنا، لا يجد المرء سوى أن يعزّي نفسه بفسح الأمل ونوافذ الرجاء التي يفتحها ثلّة من المخلصين لقضاياهم وبلدانهم في هذا البلد العربي أو ذاك، ولعلّ ما يخرجه (مطبخ) المنبر الدولي للحوار الإسلامي من وجبات تفتح شهيَّة الساعين للنجاح وإحداث التغيير الإيجابي وصناعة الوعي النوعي ما يمكن أن يصبح نموذجاً يحتذى في السعي لجعل بلداننا على غير الصورة التي الفناها، وإلا فالمشهد لا يبعث سوى على المزيد من الأزمات حيث جميع المعطيات لا تدل على غير ذلك بعد أن رأينا بأم أعيننا وفي القرن الواحد والعشرين عودة سوق النخاسة وبيع الجواري في دولة الخلافة الجديدة التي كان ولا يزال يحلم بها ويحن إليها الكثيرون في عالمنا العربي والإسلامي.

ومع اعترافي بسوداويّة الواقع وظلاميته ولكن لا يمكنّني أن أقلِّل من شأن تلك الشموع التي تضيء هنا وهناك، فهي وحدها الكفيلة ببعثرة كل هذا الظلام وكشف جميع الخفافيش العربيَّة التي تقبع في كهوف الرؤوس المفخّخة بالجهل والحقد والطائفيَّة والتي لم يعد كل ما فيها سوى مخلّفات ضارّة بالوجود البشريّ وليس لها مكان في هذا العالم سوى أن تطمر مع النفايات.

جديدنا