الأفندي: محاربة الإرهاب تبدأ من تحرير الفكر الديني ومؤسّساته من رواسب الاستبداد والجهل

image_pdf


مقدّمة:

يشدّد د. عبد الوهاب الأفندي أستاذ العلوم السياسيَّة بمركز دراسات الديمقراطيَّة بجامعة وستمنستر اللندنيَّة، على أن الخروج من هذه الدائرة الجهنميَّة التي تجتاح منطقتنا يتمثَّل في تطوير التعايش بين فئات المجتمعات المختلفة، واستبدال روايات الخوف والترويع بروايات التقارب والإخاء والتعاون، مؤكّداً أن المجتمعات الإسلاميَّة هي بطبيعتها مجتمعات تعدّديَّة بدليل وجود الأيزيديين والمسيحيّين ومكونات أخرى على مدى قرون.
على خلاف ما كان عليه الحال في أوروبا التي لم تعرف التعدّديَّة إلا حديثاً، مشيراً إلى أن البداية تكمن بإنهاء الأوضاع الشاذّة التي تكبّل المجتمع المدني وتخنقه، وسنّ قوانين توسّع الحرّيات، وتحدّ من سلطة الدولة في القمع والتدخّلات غير المشروعة في عمل المؤسّسات المدنيَّة والتعليميَّة. التقته ” التنويري” وكان معه هذا الحوار:

نرى صراعات اليوم في المنطقة هي صراعات مجتمعيَّة وإيديولوجيَّة وإن كانت في أشكالها طائفيَّة، قوميَّة، هل تتّفق مع ذلك، وما هي الحلول الموضوعيَّة لها؟

ليست هذه الصراعات بين الشعوب، وإنما تصبح كذلك عندما يحولها بعض تجّار السياسة في هذا الاتّجاه. فعندما تثور الشعوب على طاغية سامها سوء العذاب، لا يتعلّق الأمر بطائفة ولا حتى بفئة اجتماعيّة، ولكن حين يدعو ذلك الطاغية بدعوى الجاهليَّة، ويستنصر بطائفة أو فئة أو جماعة عرقيَّة يدعي الدفاع عنها، فإن هذه خدعة يجب أن لا تجوز على تلك المجموعة أو غيرها. ولتجنب مثل هذه الورطات، نحتاج إلى قيادات واعية متجرّدة، لا تجرّ الشعوب إلى مستنقع الصراع الطائفي، فتكون ممن أحلوا قومهم دار البوار، وإنما يجب أن تتوحّد الجهود في كل بلد حول توافق ديمقراطي ينهي كل الدكتاتوريّات، وكل الأنظمة الإقصائيَّة، ويقيم أنظمة تحترم الحرّيّات للجميع.


خطورة الصراعات الجارية قد تؤدّي إلى تدهور الأمور نحو الأسوأ. ما الذي يتوجّب عمله لإحداث التحوّلات الإيجابيَّة لتشكّل مجتمعي جديد يصبو نحو الارتقاء والنمو؟

هذه الصراعات مدمّرة للشعوب، اقتصاديّاً وسياسيّاً وأخلاقيّاً ودينيّاً. فهي تدمر البلاد والعباد كما نرى في سوريا ونخشى مثله في بلاد أخرى توشك أن تصبح أثراً بعد عين، وتلحق بعادٍ وثمود وقرطاجة وطروادة التي اختفت من على وجه الأرض. أخلاقيّاً، لأنها تجعل السيادة والعلو للقتلة والسفّاحين وزعماء الميليشيات، بينما يدفع العلماء والحكماء إلى الصفوف الخلفيَّة. دينيّاً، لأنّها تشوّه الدين الإسلامي وتصوّره بأنّه دين وحشيَّة وكراهية وتحزّب. هذا مع العلم أنّ القرآن ساوى بين التحزّب الطائفي وبين الشرك، كما جاء في قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) ۞)، فالتنازع الطائفي يقوم على إعلاء الجزئيّات المختلف عليها على الكليّات المتّفق عليها، ويترك كل طائفة فرحة بما عندها من نصف الحقيقة أو عشرها.

وعليه لا بد لمنع الدمار أولاً من وقف الحروب، واختيار نظم حكم ديمقراطيّة لا تقسم الشعب شيعاً تستضعف طائفة منهم على نهج الفرعون. وهذا يتطلَّب تجميع الجهود في ظل الحكم الرشيد للبناء وليس للتدمير.

ما هي الخطوات العمليَّة في استيعاب الشباب لدور البناء في التشكّل المجتمعي الجديد بدلاً من الانضمام، في راهننا، لمنظّمات أمثال داعش والخراب الناتج عن كل ذلك؟

لا بد من البداية من توحّد القيادات الفكريَّة والسياسيَّة المستنيرة حول رؤية بعيدة عن التحجّر والولاءات الضيّقة، وأن تقدّم النموذج للشباب في الوعي وسعة الأفق، ولا بد كذلك من حل الخلافات في داخل المجتمعات وبين الدول على أسس سلميّة وعادلة. فقد ظهر الإرهاب في منطقتنا على خلفيَّة أزمات الاحتلال، ومشكلة فلسطين. وهذه الأيام توشك منطقتنا أن تصبح كلها فلسطين بسبب انتشار الأنظمة ذات المنهج الإقصائي القمعي. والشباب لا يطيق الظلم، وتحرّكه المثاليّات. وفي حال انتشار المظالم وغياب القيادات الرشيدة، يسهل استدراج الشباب إلى جماعات تقدّم باطلها في صورة برّاقة، وباعتبارها ثورة ضدّ الظلم والمتواطئين معه.

الاستبداد مشكلة فرديَّة ومجتمعيَّة في بلداننا قبل أن تكون سياسيَّة، وإذ يقرأ أحدنا كتاب “أصول الاستبداد” لعبد الرحمن الكواكبي يعتقد أنه كتب في فترة بعد ما يسمّى بـ”الربيع العربي” كيف يمكن إذن الانتقال إلى حالة العمل الجماعي والمشاركة، وكيف يمكن إحداث الوعي المشترك؟

لا يمكن أن يكون الاستبداد ظاهرة فرديَّة؛ لأنه حالة اجتماعيَّة في الأساس، تعتمد على وجود طرفين: المستبّد والضحيَّة. وهناك نزعة طبيعيَّة عند كل إنسان لرفض الاستبداد، ولكن هذه النزعة تضمر ويتم استئناسها اجتماعيّاً. وغالباً ما يجد الواقع الاستبدادي القبول عبر عدّة مؤثّرات. قد يكون منها العقائد الباطلة، كما في الديانات التي تقسم البشر إلى سادة وعبيد؛ وقد يكون المؤثّر نظرية سياسيَّة أو دينيَّة، تؤلّه الدولة أو الحاكم الفرد أو “الطبقة”؛ وقد يكون المؤثّر تجربة مريرة من الفوضى والاضطراب جعلت الناس يركنون إلى الظلم باعتباره أهون الشرين، وهو ما حدث في فترات من التاريخ الإسلامي، ونشهد مثله بعد الربيع العربي. ولكن جماع كل هذه الأمور وجود رواية مقبولة تسوغ للوضع الشاذ باعتباره البديل الأفضل، أو أنه لا توجد بدائل له. ولهذا فإن دور المفكّرين الرساليّين هو دائماً صياغة وتطوير روايات الأمل والاختيار، لا روايات اليأس والجبريَّة.

الأهم من ذلك هو وجود المؤسّسات السليمة. فكما أنّ مؤسّسات الفساد والاستبداد تؤثِّر في سلوك الأفراد، وتدفعهم إلى ممارسات تتواءم مع هذه المؤسّسات، فإن السلوك يكون مختلفاً في ظل المؤسّسات الديمقراطيَّة. ولعل أبلغ دليل على ذلك هو أنّ غالبيَّة المسلمين الذين يعيشون في الغرب، أو في دول لها نصيب من الديمقراطيَّة، مثل ماليزيا وتركيا، ينسجم سلوكهم مع المناخ الديمقراطي.

منطقة الشرق الأوسط محاصرة بين الاستبداد والتطرّف، كيف يمكن لها أن تخرج من هذه الدائرة للمباشرة بالإصلاح والتغيّر؟

الاستبداد والتطرّف هما وجهان لعملة واحدة؛ فالمستبد متطرّف في وسائله وغاياته، والمتطرّف مستبد برأيه وفعله. وقد تناولت مع طائفة من الباحثين من أهل الخبرة هذه الثنائيَّة في كتاب نشر مطلع هذا العام، يتناول نماذج مختلفة لظواهر العنف والإبادة (Genocidal Nightmares: Narratives of Insecurity and the Logic of Mass Atrocities).
وقد طورنا في هذا الكتاب نظريَّة تفسّر هذه النزعات عبر ما وصفناه بروايات الخوف والتخويف. ففي كل حالة عنف وحشي أو استبداد قمعي، هناك دائماً التذرّع بخطر جسيم يتهدّد الأمّة أو الجماعة أو الدولة. قد يكون الخطر الإرهاب، وقد يكون طائفة أو جماعة دينيَّة متّهمة بالتآمر، أو جهة خارجيَّة تضمر العدوان. وفي هذه الروايات، لا بد من إجراءات حاسمة وصارمة للتصدّي لهذا الخطر الماحق، إما بغزو الآخر، أو إبادة الفئة المتّهمة، أو ممارسة التعذيب وقمع الحرّيّات، أو بالعنف والعمليّات الانتحاريَّة.

وعليه فإن الخروج من هذه الدائرة الجهنّميَّة يتمثَّل في تطوير التعايش بين فئات المجتمعات المختلفة، واستبدال روايات الخوف والترويع بروايات التقارب والإخاء والتعاون. وقد حدث هذا بالفعل في انتفاضات الربيع العربي التي وحّدت الشعوب، واستبعدت خيارات التباغض والتخوين. ولكن ما حدث بعد ذلك هو أن أنصار الاستبداد والمستفيدين منه عادوا للترويج لروايات التخويف والتخوين والإرجاف، فسمعنا عن “أخونة الدولة” في مصر، وانتشر الخطاب الطائفي في سوريا والبحرين، فتلقّفه المتلقّفون، فكان ما كان. ولا بد من العودة عن هذا المسار المدمّر إلى المسار الصحيح. ويكون ذلك أيضاً بإعادة صياغة مؤسّسات المجتمع، بما في المؤسّسات الدينيَّة، لكي تخرج من ربقة الاستبداد والتحجّر، وتؤدي دورها المطلوب منها على أفضل وجه.

ما الضرورات اللازمة لإعادة تشكّل مجتمعاتنا بطريقة فاعلة تكون جامعة للتعدّد والتنوّع والاختلاف؟

المجتمعات الإسلاميَّة هي بطبيعتها مجتمعات تعدّديَّة. وقد أكّدت الفظائع والكبائر التي ارتكبت مؤخّراً هذه الحقيقة، بدليل وجود الأيزيديين والمسيحيّين وغيرهم في أوساط المجتمعات الإسلاميَّة لقرون، على خلاف ما كان عليه الحال في أوروبا التي لم تعرف التعدّديّة إلا حديثاً. فهذه الممارسات التي تورّط فيها البعض هي خروج على الإسلام ونهجه في المقام الأول. ولكن لا يكفي النظر إلى قيم الإسلام أو قيم الحداثة في معزل عن الواقع. ذلك أن التعامل مع الآخرين يقوم كذلك على كيفيَّة تعامل الآخرين. ولو عدنا للنموذج الذي أشرنا إليه عن تعدّديّة الإسلام الأصيلة، فإن هذا النهج من التعامل كان في وقت لم يكن من المسموح به للمسلمين الوجود، ناهيك عن العيش بحرّيّة، في غير بلاد المسلمين.

وعليه فإن هذا كان من باب ادفع بالتي هي أحسن السيئة. أما اليوم، فإن المسلمين ينعمون بالعيش بحرّيّة في الغرب والشرق، بل ويعاملون كمواطنين لهم كامل الحقوق. بل إن ما يجدونه من المعاملة هو أفضل مما يجده كثيرون فيما يسمّيه البعض “دار الإسلام”. وهذا بدوره يتطلّب أن يتطوّر نهج التعامل الإسلامي بحيث يتفوّق في التسامح كما كان الشأن في السابق، وكما يجب أن يكون دائماً.

كيف/ ما هي الخطوات المطلوبة في إرساء الأسس للعمل المؤسّساتي الحديث الضروري للتشكّل المجتمعي الجديد؟

البداية تكون بإنهاء الأوضاع الشاذّة التي تكبّل المجتمع المدني وتخنقه. فلا بد من سن قوانين توسّع الحرّيّات، وتحدّ من سلطة الدولة في القمع والتدخّلات غير المشروعة في عمل المؤسّسات المدنيَّة والتعليميَّة. ينبغي كذلك إشاعة أجواء ومناخ الديمقراطيَّة، وتحرير الفكر الديني ومؤسّساته من رواسب الاستبداد والجهل. وهذه مهمّة للجميع، ينبغي أن يضطلع الشباب فيها بدور ريادي في بناء المؤسّسات المدنيَّة الرائدة. ولكن حتى يتحقَّق هذا، لا بد من وجود دولة تحمي الفضاء المدني، وتلتزم بالعدالة وحكم القانون، وتحتكر العنف المشروع، ولا تسمح للميليشيات وغيرها من التشكيلات المسلّحة، لأن تخصيص العنف وخصخصة الدولة في بداية الانهيار.

بطاقة:
. أستاذ مشارك في العلوم السياسيَّة بمركز دراسات الديمقراطيَّة بجامعة وستمنستر- لندن.

. مشرف على برنامج “الديمقراطيَّة والإسلام” بالمركز.

. زميل باحث في برنامج المتغيّرات الدوليَّة لمراكز البحوث البريطانيَّة.

. زميل الجمعيَّة الملكيَّة لرعاية الآداب.

. له العديد من المؤلّفات، من بينها: “دارفور: نظرة في الجذور والحلول الممكنة”/2009، “لمن تقوم الدولة الإسلاميَّة”/2010، “عن محمّد: المنظور الغربي الآخر لنبي الإسلام”/2011.

. أنجز كتابه الأخير بعنوان: “دارفور: حصاد الأزمة بعد عقد من الزمان”.

جديدنا