الدولة في المنطقة العربيَّة: النعجة “دوللي” لا بد أن تموت

image_pdf

في مساء 17 أيلول (سبتمبر) 2011 تجمّع قرابة 200 ناشط من حركة “احتلوا وول ستريت/ Occupy wall street)  في حديقة زوكوتي في نيويورك، في المنطقة التي تقع فيها سوق الأوراق الماليَّة، وقرروا إقامة اعتصام احتجاجي هناك.
في البداية لم يكن مسموحاً لهم بإحضار الخيام، لكن بعد عدة أيام تمكّنوا من إحضارها واستطاعوا بناء مكتبة عامة للقراءة، وأماكن خاصة لتحضير الطعام، ووصلات إنترنت، ومولدات كهرباء وكل ما يلزمهم للبقاء في مقر الاعتصام. بعد أيام سحبت الشرطة مولدات الكهرباء بحجة أنها تمثّل خرقاً لمعايير الأمن والسلامة، فقام المعتصمون بإحضار دراجات هوائية ثابتة تقوم بإنتاج الطاقة عن طريق الحركة. لم تمر أيام كثيرة حتى دخلوا في مواجهات صدامية مع قوات الشرطة أدّت إلى اعتقال العشرات منهم وفضّ الاعتصام بالقوة.

هذه الحركة وغيرها، هي جزء من تيار أكبر يتشكّل ويكتسب زخماً وحضوراً، بمرور الوقت، في المجتمعات الغربيَّة، يرفع مطالب تتعلّق بالعدالة الاجتماعيَّة وإعادة توزيع الثروة والسلطة، إضافة إلى مساءلة مفهوم الدولة بشكله الحالي، كما يثير الشكوك حول جدوى وفعالية مؤسسات الحكم وأجهزة الهوية السائدة في الغرب. يسأل هذا التيار أسئلة محورية، وهي: هل هذه الدولة الحديثة ومؤسساتها، التي تُعدّ واحدة من أهم إنجازات الغرب في العصر الحديث، هي الأكثر ديمقراطية بالفعل، هل تعبّر عن الناس حقاً، هل تحقّق لهم العدالة على الوجه المطلوب؟

اضطراب مفهوم الدولة في الغرب

يلحظ المراقب للشأن السياسي في الدول الغربيَّة الديمقراطيَّة اهتزاز مفهوم الدولة. الأمة في شكله القديم المعتاد. فلم تعد موضوعة (الأمة) ذات الأرض والثقافة والتاريخ المشترك تمرّ كمسلّمة يبنى عليها دون مساءلتها، خاصَّة بعد انفتاح الحدود، وتشكُّل الكيانات السياسيَّة الكبرى (كالاتّحاد الأوروبي مثلا) وتزايد حضور المهاجرين من أعراق مختلفة في مجتمعات غربيَّة عديدة، بشكل جعلهم، مثلا، يمتلكون المقدرة على حسم الانتخابات الرئاسيَّة الأمريكيَّة لصالح مرشح بعينه (باراك أوباما) في انتخابات 2012، وثورة الاتصالات التي جعلت العالم قرية صغيرة كما يقول التعبير المستهلك. كل هذه العوامل وغيرها أدّت إلى وضع مفهوم الدولة، الذي اعتاد عليه المواطن الأوروبي منذ الثورة الفرنسيَّة، على محك النظر، في شتَّى مستويات المعالجة الفلسفيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة.

اضطراب مفهوم الدولة في المنطقة العربيَّة
يمكن الحديث أيضاً عن اضطراب مفهوم الدولة في المنطقة العربيَّة. إذ أصبح من المعتاد الحديث عن المشكلات البنيويَّة الكامنة في دول اتفاقيَّة “سايكس- بيكو”، أي التقسيمات الحدوديَّة التي نشأت باتفاق الدول الكبرى وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا عام 1916، فارضة مشروع الدولة الوطنيَّة بشكله المعروف في الغرب في ذلك الوقت، على ميراث الإمبراطوريَّة العثمانيَّة العابرة للقوميّات، دون مراعاة للخريطة العرقيَّة الفعليَّة على الأرض، ودون مراعاة حتى للطبيعة الجغرافية للأقاليم، إنما فقط بمراعاة مناطق النفوذ بين الدول راعية التقسيم.

للوهلة الأولى يبدو أن الأمر لا يتخطّى مجموعة من الأسلاك الشائكة التي تضع حدوداً سياسيَّة لم تكن موجودة من قبل، لكن هذه “الأسلاك” تنعكس في الواقع الاجتماعي في شكل منظومة حقوقيَّة جديدة مفروضة على الإنسان داخل هذا القفص الشائك، مطالبة إيّاه بحقيبة أخرى من الولاءات والهويّات والواجبات والحقوق. فبالأمس كان ذلك الناطق باليونانيَّة يشترك مع جاره الناطق بالتركيَّة مع ثالث لهما ناطق بالعربيَّة في كونهم رعايا الدولة العثمانيَّة، بينما- بين عشية وضحاها- صار هناك دولة لكل منهم تطلب منه الحذر من صديقيه بوصفهما أجانب أو غربا، جدير بالذكر، في هذا السياق، أن نتذكر أحداث ليلة 7 أيلول (سبتمبر) عام 1955، حين هاجمت الجماهير التركيَّة الغاضبة كل المواطنين الناطقين باليونانيَّة، في إطار الحشد الذي ظل يقوم به “حزب الشعب الجمهوري” بقيادة أتاتورك لعدة سنوات بعد إعلان الجمهوريَّة التركيَّة ضدّ كل ما هو “غير تركي”.

ولا أعرض هذا المثال للتدليل على أفضليَّة مشروع الخلافة على مشروع الدولة الوطنيَّة الذي تلاها، وإنما أعرضه في سياق التدليل على عمق الأزمة البنيويّة الكامنة في مشروع الدولة ذاته في المنطقة (حتى دولة الخلافة) وهذه الأزمة المتمثّلة في عجزه عن إيجاد صيغة فعّالة للتوافق، ونذكر هنا مثلا بمذابح الأرمن التي قامت بها السلطنة العثمانيّة خلال الحرب العالميَّة الأولى، والتي يعدها كثير من الدول الأوروبيَّة إبادات جماعيَّة، ومحاولات القمع المتكرّرة للحركات الانفصاليَّة مثل الحملة على “التمرّد” الوهابي في الجزيرة العربيَّة على يد ابني محمد علي باشا طوسون وإبراهيم بأمر من الخليفة العثماني، في مطلع القرن الـ19.

مثل هذه الأمثلة تعطينا فكرة عن هشاشة مفهوم الدولة في المنطقة العربيَّة، حيث نشأت بشكل قسري ومبستر، إما مفروض من الخارج، أو بإرادة سياسة فوقيَّة لعائلة حاكمة مفروضة، دون أن يكون لها أرضيَّة اجتماعيَّة حقيقيَّة، ودون أن تحظى الدولة بمراحل تشكّلها الطبيعيَّة من جدليَّة اجتماعيَّة حيويَّة تفضي بالضرورة إلى صيغة للتوافق تعطي الأساس والمشروعيَّة للدولة. بينما هذه “الدول” نشأت بمشروعيَّة فوقيَّة وبقرار خارجي عن إرادتها ووعيها.

يشبه نشوء الدولة في المنطقة العربيَّة بهذا الشكل المبستر النعجة “دوللي” التي أعلن عن استنساخها عام 1996، في حدث اعتبره العالم أعظم إنجازات العصر، لكنها سرعان ما أظهرت ضعفاً في الصحّة العامّة، ما اضطر الأطباء لإنهاء حياتها مبكّراً عام 2003.

كذا الدولة في المنطقة العربيَّة، فطوال القرن الماضي لم يبقِ الدولة العربيَّة على قيد الحياة (ولو في فراش المرض) سوى وجود الاستعمار في النصف الأول من القرن، ثم الأنظمة الاستبداديَّة في النصف الثاني منه، وبمجرد ما نزع “الربيع العربي” الأنظمة المتهالكة عن عروشها، تفكك الوضع، وسرعان ما تدهورت صحة النعجة المريضة.

وتبدو الصراعات الطاحنة التي نشهدها اليوم في المنطقة كما لو أنها “سكرات الموت” للدولة العربيَّة معدومة الشرعيَّة الاجتماعيَّة.

فرق بين الاضطرابين

يمكننا بهذا الشكل ان ندرك الفارق بين اضطراب مفهوم الدولة الحالي في الغرب، وبين نظيره في المنطقة العربيَّة. فالأول ناتج عن زيادة الوعي والبحث عن “التوافق” (أو المزيد من التوافق) بينما الثاني اضطراب ناتج عن زيادة الوعي والفشل في إيجاد صيغ للتوافق حول العيش المشترك. الأول يمكن اعتباره كمخاض اجتماعي وجدلية اجتماعيَّة حقيقيّة تؤدي إلى تولّد الجديد الذي يستوعب دروس القديم ويبني عليها، والثاني يمكن النظر إليه باعتباره صراعاً صفرياً لتكسير العظام. هناك مساءلة لمفهوم الدولة من أجل تخطيه وتجاوزه لما بعده، وهنا تشكيك في مفهوم الدولة للارتداد عنه. فالوعي هو حجر الزاوية في هذا التحليل لمعرفة دلالات ومآلات الصراع الذي تشهده المنطقة.

وبعد أن مكثنا عقوداً طويلة نحسد الغرب على منجزه الديمقراطي في تأسيس الدولة المستقرّة وصعود مؤشرات التنمية والتحديث والتطوير المؤسّسي والإداري والتقني بشكل مذهل، في الخمسين سنة الأخيرة منذ آخر حرب عالمية كسّرت ضلوع الغرب، ها هو الغرب الآن يشهد مخاضاً اجتماعيّاً جديداً لتجاوز مفهوم الديمقراطيَّة وفكرة الدولة ذاتها، وهو الأمر الذي يصاحبه اضطراب بطبيعة الحال، لكنه اضطراب في سياق التجاوز لا في سياق الارتداد. ويمكنك معاينة ذلك في التحالفات الكبرى التي تطرح أطرا جديدة للهويّة والولاء، فمشروع الاتحاد الأوربي مثلاً طرح على المواطن الفرنسي إطار “القوميَّة الأوروبيَّة” عوضا عن “القوميَّة الفرنسيَّة” التي نشأ فيها، وبالتالي وضعه في إطار تعريف جديد للدولة.

وفي سياق آخر، يمكنك أن تلحظ ذلك في مسار دعوة انفصاليَّة حديثة كاستفتاء إسكتلندا على الاستقلال عن المملكة العظمى، وهو الأمر الذي تابعه كثيرون باهتمام لما له من دلالات مهمّة على مصير الدولة في أوروبا بشكل عام، وهو التصويت الذي انتهى برفض المشروع بالأغلبيّة.

وليس ثمّة تعميم هنا، فلا يتعارض ذلك مع وجود دعوات انفصاليَّة ذات زخم وحضور هنا أو هناك، كالدعوة إلى استقلال إقليم كتالونيا عن إسبانيا، والدعوة إلى تقسيم بلجيكا بين الفلامون والوالون العنصرين الرئيسيين في البلاد، لكنها استثناءات تؤكّد الأصل ولا تنفيه. والأصل هنا هو ارتكاز “الدولة” في الغرب على صيغة اجتماعيَّة للتوافق (وليس بالضرورة الأصل المشترك!) رهانها على التنمية والوعي كأسس للحفاظ عليها. ولاحظ أن “وجود دعوات انفصاليَّة” يترجم في الغرب إلى تصويت تقبل نتيجته أيضا بالتوافق أيا كانت، بينما تترجم “الدعوات الانفصاليَّة” هنا إلى حرب أهليّة. فهذه “الدولة” التي يسائلها الغرب اليوم ليتجاوزها، هي ما نصارع نحن هنا فقط لنشم ريحها، وبعد لم نتمكن من ذلك، وليس في القريب العاجل كما يبدو من الواقع الحالي.

ماذا لدينا على الطاولة؟

وفي إطار هذا الاضطراب للدولة في المنطقة، تطرح نفسها على الساحة العربيَّة والشرق أوسطيَّة مجموعة من النماذج البديلة للتشكل الاجتماعي السياسي للشعوب في المنطقة. وعلى رأس هذه النماذج المطروحة:

1-الدولة العرقيَّة/ المذهبيَّة: البعض يتحدّث عن إعادة تقسيم على أسس عرقيَّة أو مذهبيَّة، بحيث تصبح “الحدود” السياسيّة مقابلة للحدود والتقسيمات العرقيّة والمذهبيَّة القائمة على الأرض بالفعل، على الأقل في المناطق التي يمكن بسهولة تمييز السيادة الديموغرافيَّة لعرق معيّن فيها (كالأكراد في غرب آسيا، أو الأمازيغ في المغرب) أو مذهب ديني معيّن (كالشيعة والسنّة والأيزيدية والعلويّة.. الخ) وينظر إلى هذا الحل (التقسيم) من زاوية ما باعتباره ثمنا للتخلص من “صداع” الصراعات الطائفيّة والعرقية المزمنة، وينظر إليه كذلك من زاوية الأقليّات العرقيّة والمذهبيّة نفسها على أنه تتويج للنضال الوطني التاريخي للانفصال.

2- الدولة العابرة للقوميّات (الخلافة اصطلاحاً): وهو تصور يرى بأن ضمّ الأقاليم والعرقيّات والمذاهب جميعا تحت لواء “دولة” واحدة مفتوحة الحدود ومحكومة بالفقه عوضاً عن القوانين الوضعيّة، هو مطلب ديني في حدّ ذاته، والاعتقاد به يمثّل جزءا من عقيدة “المسلم”. يمثّل هذا التصوّر بشكل جلي في خريطة الصراعات الحاليّة تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش). وجدير بالذكر أن نفس التصور عن “الخلافة” عابرة القوميّات المحكومة بالشريعة المقدّسة، هو الموجود لدى المخيلة الجمعيّة لكافة تيارات الإسلام السياسي (وربما لدى عامة جماهير المسلمين) في المنطقة العربيّة، حتى تلك التيارات التي اعتادت أن تشارك بـ”سلميّة” في الحياة السياسيّة وفي الممارسات الديمقراطيّة للدولة الوطنيَّة (كالإخوان المسلمين مثلاً). وهذا الحضور لفكرة “الخلافة الإسلاميّة” في الوعي العام هو ما يعطي دون شك قوة ونفوذاً رمزيّاً لتحركات (داعش) التي يراها قطاع كبير من المسلمين – حتى ولو على استحياء (جهاداً) مقدّساً. وللتدليل على ذلك، نذكر هنا بموجات الفرحة العارمة التي اجتاحت العواصم العربيّة عشية استهداف برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001، واسم بن لادن مسبوقاً بلفظة: “المجاهد”. فبرغم أننا نسمع كل يوم أصواتاً ترتفع بإعلان اختلافها مع (داعش) في طريقة استخدامها المباشر للعنف، إلا أن هؤلاء يظهرون براءتهم من أساليبها ومفاهيمها دون أن يقدّموا تصوراً بديلاً عن “الجهاد” الذي يقصدونه، أو “الخلافة” التي يقصدونها، وهو ما يؤكّد أن ذلك المفهوم “الداعشي” للـ”جهاد” و”الخلافة” لا يزال هو الغالب على الوعي العام وإن اجتهد البعض في تجميله والتمويه عليه.

3- الدولة الوطنيّة بوضعها الحالي: بتأثير من “ربيع الثورات العربي” وموجة الاضطرابات الاجتماعيَّة التي أعقبته، ظهرت تيارات تدعم بقوة وباستماتة، الحفاظ على ما هو قائم، كحائط صد ضد ما هو أسوأ، وبرغم وجود تيارات عديدة تنادي بهذا الخيار اليوم، إلا أن الرابح الأكبر منه يتمثّل في خطاب الشعوبيّة القوميّة الذي انتصر اليوم في مصر ويكاد ينتصر في سوريا، والذي يضع الجماهير أمام خيار حصري بين الفاشية العسكرية وبين انعدام الأمن والحروب الأهلية، ما يجعل الجماهير تختار الفاشية بقلب راض ووجه بشوش.

الصراع

فبين هذه النماذج الثلاثة تتزلزل المنطقة، وبضغط من الاستقطاب الحاد في مصالح القوى العالمية الكبرى، وذلك الاستقطاب هو ما يعجل بانهيار كافة الأوضاع غير المستقرة أساساً، والتي تعاني من اضطراب وتناقض كامن، فبالتالي لا تصمد أمام استقطاب المصالح الحاد بين القوى العالمية الكبرى. يمكن تخيّل ذلك على أنه تقلبات درجات الحرارة التي لم تصمد أمامها “دوللي” وتسببت في إصابتها بالتهابات حادة في الرئة نتيجة ضعفها أساساً.

الحل

يمكن لكل طرف أن يجادل بوجاهة نموذج أو آخر من تصورات الدولة المطروحة، لكن تبقى حقيقة أنه دون تطور حقيقي على مستوى وعي المواطن فلا يمكن لأي مشروع اجتماع سياسي أن يعيش.

فمثلما كان “الوعي” هو حجر زاوية التحليل، فهو كذلك حجر الزاوية للخروج من المأزق: دون تبلور مشروع لوعي المواطن العربي/ المسلم، فلن تجدي في تقديري لا الحلول الانفصاليّة ولا الحلول التوسعيّة.

نحتاج أن نبلور صورة ناضجة عن أنفسنا وعن الآخرين وعن العالم، ونحتاج أن نتعلم أن علينا التعايش مع بعضنا البعض وقبول الاختلاف، وأنه لا يمكن بأي حال- مهما بلغنا من التقسيم- أن نصل إلى دولة كل مواطنيها نسخة واحدة، وأن التعايش وقبول الاختلاف ضرورة وغاية. نحتاج أن نتعلم أن منظومة الحقوق لا تنفصل عن منظومة الواجبات، وأن قيم الدين لا تتنافى مع قيم العلم، وأن كل ما يحقّق مصالح بني آدم هو شريعة الله وليس العكس، وأن الله لم يخلق الإنسان ليفنى في جحيم الأرض، وإنما خلقه ليحيا حياة طيبة، أما من دون هذا المشروع، فـ”دوللي” لا بد أن تموت.

جديدنا