الوطن العربي والعلوم الإنسانيَّة؛ نظرة موضوعيَّة

image_pdf

عندما تدخل من البوابة الرئيسة لجامعة عين شمس في العباسيَّة في القاهرة تجد طرقًا واسعة قد ملأها طلاب وطالبات كلية الآداب، والتي تنتمي إليها تخصّصات (علم النفس، الفلسفة، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، التاريخ، الجغرافيا) وغيرها من الأقسام(1) و لكن موضوعنا هنا العلوم الإنسانيَّة التي تقتصر على هذه الأقسام ( وسنشير إليها بـ”العلوم الإنسانيَّة” أو “العلوم الاجتماعيَّة” في هذا المقال). وليس يجمع هؤلاء الطلاب في يومهم الأول في الجامعة غير إحساسهم بالصغر أمام التخصّصات الأخرى، فهم جاءوا لتحصيل الشهادة العليا “عديمة الفائدة” فهم لا ينتمون لفصيل “العلماء”، وليست لديهم فرصة – مهما كانت ضئيلة – في التعيين كـوكلاء نيابة في أحد المحاكم ليتقاضوا الألوف المؤلّفة، ولن تستطيع مهاراتهم أن تدخلهم صفوف الـ”Business” وقطاع الأموال وهم يحملون شهادة الآداب والعلوم الإنسانيَّة، ولن يستطيعوا الحصول على وظائف في السلك الدبلوماسي كذلك. فهم كمن اتَّخذوا الشياطين أولياء، قد “خسروا خسرانًا مبينًا.”

و قد جاء نظام القبول الجامعي في الوطن العربي قاطبةً ليزيد الطين بلّة، فتُقبَل أعداد  كبيرة في كليّات الآداب والعلوم الإنسانيَّة، وتخصَّص لها أقل ميزانيَّة، دون مراعاة للمستوى العلمي للطالب وما إذا كان قادراً على العمل الدؤوب في هذه العلوم، ودون مراعاة كذلك للقدرة الاستيعابيّة للكليَّة، وأقصى عدد للطلاب يمكن أن يسمح للأساتذة الجامعيّين بالاهتمام في الطلاب.

و قد ترتَّب على هذا نوع من النظرة “الدونيَّة” للعلوم الإنسانيَّة عامَّة، أو على الأقل تخوّف من دخول ساحة العلوم الإنسانيَّة، والطلب عليها يكاد يكون معدوما. لذلك تجد معظم الطلاب الذين تخصّصوا في هذه المجالات قد تخصَّصوا بدون رغبة لأن درجاتهم لم تؤهِّلهم للكليّات العلميَّة، أو لأن مواردهم لم تسمح (ماليَّة، جسديَّة،… إلخ)، و النتيجة متوقّعة: هروب من الواقع وعدم المذاكرة أو العمل مع الكليَّة وعدم الاهتمام بالدراسة أو غير ذلك مما نراه من هؤلاء الطلاب. وتأتي الحكومات العربيَّة بعد ذلك لتتذمَّر من عدم جدوى خريجي هذه الكليّات وعدم جدوى البحث العلمي فيها؛ لأنه – كما يرون – لا يوجد عائد من الإنفاق على طالب الآداب والعلوم الإنسانيَّة يتوافق مع حاجات المجتمع.

ومشكلة هذه الكليّات لها جانبان، وسنحاول النظر لكل منها على حدة.

مشكلات التدريس في كليّات الآداب والعلوم الإنسانيَّة:

تواجه العلوم الإنسانيَّة في كلياتنا العربيَّة عامّةً عدداً من المشكلات في تدريسها، بدءًا من طرق التدريس وحدود النقاش، إلى مستوى الطالب ومدخلات ومخرجات التعلّم. ومشكلات التدريس لها دور مباشر على الناتج و تلعب دوراً أساسيّاً في مستوى الطلاب و يمكن أن نلخِّصها في :

  • عدم الاهتمام بأعضاء هيئة التدريس، وعدم مراعاة الجهد المبذول من عضو هيئة التدريس، ومنحهم مرتبات بخسة جدّا، ففي بعض البلدان العربيَّة مبلغ تقاعد الأستاذ الجامعي بعد أربعين سنة من التدريس في كليّات العلوم الإنسانيَّة لا يتجاوز 50 دولاراً  في الشهر.
    يؤدّي هذا طبعاً إلى خلق جو من عدم الرضا من جانب الأستاذ الجامعي، و بالتالي عدم بذل الجهد المطلوب في التدريس ممّا يؤثِّر على مخرجات التعلُّم ومستويات الطلاب(2).
  • تعدّد ثقافات وروافد كليات الآداب والعلوم الإنسانيَّة، والذي يؤدّي بدوره إلى خلق مناخ تنافسي غير صحي في الكليّة، وكذلك عدم التجانس بين الكليات ممّا يجعل تقييم كليات الآداب والعلوم الإنسانيَّة ككل أو تحديد معايير العمل في الكليّة أمرًا شبه مستحيل.
    و من الحلول المعمول بها لحلِّ هذه المشكلة: فصل بعض أقسام كليّات الآداب وضمّها إلى كليّات أخرى مثل فصل كليّة المكتبات والمعلومات وضمّها إلى كليّة التربية أو الإعلام أو الحاسبات الإلكترونية حتى، كما هو الحال في بعض الجامعات في السعوديَّة وليبيا ولبنان والمغرب وتونس. ومن الحلول المقترحة: اقتراح المجلس الأعلى للجامعات في مصر بتقسيم كليّات الآداب في مصر إلى كليّات آداب وكليّات لغات وكليّات علوم اجتماعيَّة (تضمّ كل الأقسام المذكورة سابقاً ما عدا الفلسفة)(3).
  • عدم تناسب الأعداد الضخمة للطلاب مع المصادر المتاحة، سواءً من ناحية اعتمادات مصادر تعلمّ كافية، أو من ناحية نسبة عدد الطلاب إلى عدد أعضاء هيئة التدريس، ففي حين تفخر الجامعات الأمريكيَّة العريقة بنسبة أعضاء هيئة تدريس إلى الطلاب لا تتجاوز 1:10، تجد أفضل جامعة حكوميَّة في مصر (جامعة القاهرة) تملك نسبة أعضاء هيئة تدريس إلى طلاب تبلغ 1:31 و تقل النسبة عن ذلك في كليّات الآداب(4).
  • تصميم مناهج العلوم الإنسانيَّة بشكلٍ يضع اتّفاقها مع الأيدولوجيا الدينيَّة والسياسيَّة أولاً قبل كل شيء؛ ممّا يعوق حركة الإبداع والتفكير والنقد، والتي هي أساس هذه العلوم إلى جانب النقاشات والبحث المستمر.
    ومشكلتنا هنا ليست مع أسلمة العلوم الاجتماعيَّة، فالعلوم الاجتماعيَّة – على سبيل المثال – يجب أن تأخذ في الاعتبار الطبائع المختلفة لكل منطقة وكل عصر. المشكلة تكمن في التطبيق الخاطئ لهذه الفكرة و تقييد العلوم الإنسانيَّة بالسياسة. “إنَّ أسلمة العلوم الإنسانيَّة لا يجب أن تعطِّل دور العقل بل تمثِّل مقاصد الوحي وقيمه وغاياته وتدرس وتمثِّل اهتمام الوحي وهو الفرد والمجتمع الإنساني والبناء والإعمار الحضاري” (من “الوجيز في إسلاميَّة المعرفة”: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بتصرف).
  • انعدام شبه تامّ لدراسات قياس حاجات مؤسّسات المجتمع من الخريجين من حيث العدد ومن حيث المهارات المطلوبة؛ ممَّا أدّى إلى ظهور فجوة بين ما يتطلّبه سوق العمل وبين المناهج(4). فتتحوَّل العلوم الإنسانيَّة إلى مناهج تدرس وتحفظ وينجح فيها الطلاب ثم يتّجهون للعمل بعيداً عنها ليتحولوا إلى عبءٍ اقتصادي وتتحوَّل العلوم بدورها إلى عبءٍ منهجي وتربوي.
  • ضعف المدخلات في تعليم العلوم الإنسانيَّة عامَّة، من حيث مستوى الطالب، والمخصَّصات الماليَّة للرواتب والأبحاث، وحري بالحكومات أن توفِّر المدخلات اللازمة قبل أن تسأل “أين المخرجات؟” فنظامنا التعليمي والتربوي يضع الحوافز لدفع الطلاب إلى العلوم التطبيقيَّة، ويضع عليها أعلى المكافآت أثناء الدراسة وبعد التخرّج. وضعف المدخلات يؤدّي إلى ضعف المخرجات وضعف المخرجات يؤدّي إلى ضعف المدخلات وهكذا، والنتيجة: مجتمع يرى هامشيَّة العلوم الإنسانيَّة  وضعف الحاجة إليها قياساً إلى غيرها(5).

 

مشكلات البحث العلمي في العلوم الإنسانيَّة:

من أصل أربع وستين دوريَّة مصريَّة تصدر عن الجامعات والمراكز البحثيَّة المختلفة، واحدة فقط للعلوم الاجتماعيَّة وأخرى لكليات الآداب بجامعة عين شمس بجميع أقسامها؛ وباقي الدوريّات علميَّة أو متعلّقة بعلوم الآثار. أي أن نسبة الإنتاج البحثي في هذه العلوم يساوي 1/32  أو ما يساوي 3 بالمائة من مجموع إنتاج البحث العلمي في مصر(6). و هذا يوضح حجم الكارثة التي يجب أن ننظر في أسبابها وأرى أنها تكمن في:

  • انعدام وجود برامج بحثيَّة طويلة المدى تهدف إلى سدِّ عجزٍ معيّن أو الوصول لحلّ مشكلة بذاتها. فإذا نظرنا اليوم إلى عدد المشاريع البحثيَّة التي ظلّت حبراً على ورق  مثل دائرة المعارف العربيَّة التي لم ترَ النور حتى الآن، وجدنا مدى القصور في البحث في هذه العلوم.
  • سيطرة البيروقراطيَّة على مراكز الأبحاث الموجودة عامة، ومراكز البحث العلمي الاجتماعيَّة خاصَّة. فالحرّيات الأكاديميَّة في مراكزنا العربيَّة ضائعة، والجمود في المواضيع البحثيَّة واضح وجليّ. و لنأخذ مدراء مراكز البحوث كمثال، فمدراء المؤسّسات البحثيَّة في الغالب الأعمّ لا ينتخبون وإنما يعيّنون على مرأى ومسمع من الباحثين والأساتذة، ولا ترى منهم أي تعليق. والناتج أنَّ هؤلاء المدراء يعتبرون إدارة المراكز البحثيَّة مثل إدارة البنوك (الإمضاء على ورق واستلام المراسلات). وناتج ذلك اختناق البحث العلمي و تشويه سمعة المؤسّسات وعلى الأخصّ سمعة الباحثين في العلوم الإنسانيَّة، وتصويرهم في وسائل الإعلام كعالة على الدولة، يأخذون راتبهم دون أن يعملوا!
  • المستوى العلمي العامّ للرسائل الجامعيَّة ضعيف جدّاً إلا في حالات نادرة، و فوق هذا قلّة الإنتاج البحثي. فالناتج قليل وسيِّء في آن. وتستشري صور عدم النزاهة العلميَّة في وطننا العربي فحالات سرقة الأبحاث كثيرة، بل وتجد أبحاثاً سرقت وينال سارقها بها شهادات علميَّة، و هذا أمر مخزٍ.  يمكن أن يرجع هذا للفهم القاصر للمجتمع العربي الذي لا يزال يعتقد بأن البحث العلمي في العلوم الإنسانيَّة ترف(7).
  • سيطرة العادات البالية على أفراد المجتمع، حيث يخشون التعاون مع الباحثين – خاصَّة فى مجال البحوث الميدانيَّة – إمَّا لقناعة من المبحوثين بعدم أهمّيّة آرائهم التى يمكن أن يحويها البحث العلمي، أو لخوفهم من التعرّض لأي مساءلة أو العقاب. وفوق ذلك افتقار الدول العربيَّة لمراكز بحوث الرأي العام، حيث يصعب الحصول على موافقات لإنشاء هذه المراكز(7).
  • حالة الباحث: فهو يعاني أشدّ المعاناة، لدرجة أنه مهمَّش تهميشاً تامّاً. فقد أصبح الجامعي في الدول العربيَّة وخاصَّة في العلوم الإنسانيَّة يجري وراء الساعات الإضافيَّة أو يحاول أن يكتب مقالات صحفيَّة؛ للحصول على أجرٍ إضافي يمكّنه من سدِّ احتياجاته الأساسيَّة(8). وهذا يحدث دون أن تُبدي حكوماتنا أي امتعاض، ناهيك عن محاولة إيجاد حلّ لهذه المشكلة. ففي الوقت الذي أثبتت الدراسات فيه أن العوائد لها أثر مباشر على انتاجيَّة الباحثين(9)، تجد الباحث في الوطن العربي لا يحصل على راتب يكفي لسدّ حاجاته، ناهيك عن أشكال التكريم والتقدير المختلفة.
  • اعتبار الأبحاث الإنسانيَّة من سقط المتاع، فالأبحاث – جيِّدة أو سيِّئة – في العلوم الإنسانيَّة لا تخرج من على ورقات الدوريّات أو أجهزة الكمبيوتر. والدول العربيَّة لا تعنى بالصرف المادي على هذه الأبحاث، ولا تتعب نفسها في الاستفادة من نتائج الأبحاث الاجتماعيَّة، فتطبيق بحث اجتماعي ومناقشة نتائجه وما يمكن أن يستفاد منها، ضرب من ضروب الخيال.

ونسأل هنا: لماذا لا توكل حكوماتنا العربيَّة الباحثين في العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة إلى دراسة الخطط المختلفة وتأثيرها على المناخ الاجتماعي والسياسي على الأفراد في الدولة؟ لماذا لا نعطي أي قيمة للباحث الاجتماعي أو لبحثه؟ إنَّ النهضة الأوروبيَّة بدأت بمارتن لوثر وفلسفته قبل أن يحلّ عليها جاليليو و نيوتن، فهل نتعلَّم؟  

الهوامش:

1: جريدة الأهرام المصريَّة: http://gate.ahram.org.eg/News/1552292.aspx/ تمَّ الوصول في 13/4/2018

2: Al-Otaibi. Sanhat. (2007). Degree of administrative difficulties in the management of the General Authority for Class Education and Training in Kuwait as seen by the administrators and faculty members in relation to their satisfaction and moral spirit, unpublished PhD thesis, Yarmouk University, Irbid, Jordan.

3: د. أسامة السيد محمود علي، ضمان الجودة بكليات الآداب والعلوم الإنسانيَّة: تجارب وإشكاليّات. الاتّجاهات الحديثة في المكتبات والمعلومات، مج15، ع30 (يوليو 2008)، ص195:200.

4: إحصائيّات وأرقام عن الجامعة، جامعة القاهرة: https://cu.edu.eg/ar/page.php?pg=contentFront/sectionData.php&sectionId=105 (تم الوصول في 14/4/2018.)

5: سعد البازعي، علومنا الإنسانيَّة إلى أين، مارس 2010.

6: انظر بنك المعرفة المصري: http://www.ekb.eg/web/guest/journals  (تم الوصول في 14/4/2018.)

7: المشكلات التي تواجه البحث العلمي في الوطن العربي: goo.gl/1JMVYG )تمّ الوصول في 14/4/2018).

8: عبد العزيز التميمي، من المسؤول عن أزمة البحث العلمي في العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة في الوطن العربي؟

9: Chen, Y., Nixon, M. R., Gupta, A., Hoshower, L. Research productivity of Accounting Faculty: An Exploratory Study. American Journal of Business Education, V3, No.2 pp.101:116. February 2010.

 

جديدنا