العلوم الإنسانيَّة والتنوير: أيَّة علاقة؟

image_pdf

 

لمقاربة موضوع العلوم الإنسانيَّة والتنوير، يقتضي حصر الموضوع، ومحدّدات تناوله ودراسته. فالعلوم الإنسانيَّة كمفهوم بصيغة الجمع، مفتوح على  تشعّبات كبرى وعامَّة. فهي علوم يتقاطع فيها الاجتماعي بالاقتصادي والسياسي، والنفسي والتاريخي، فالجغرافي والقانوني، الفردي بالجماعي. أو لنقل كل الأبعاد الإنسانيَّة، باعتبارها علوماً ” محورها الإنسان وسلوكه تجاه ذاته وتجاه الآخرين على كافة المستويات النفسيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة”. أمَّا التنوير من حيث هو تقدير للنشاط العقلي المستقل، بما يسمح بتجاوز القصور الذاتي وتحرير العقل من الأغلال التي قد تحول دونه وفهم العالم. وكحركة لا تقبل بأي تفسير للظواهر لم يبرهن عليه بطريقةٍ منهجيَّة منظّمة، تفسير يجعلها مقبولة لدى الجميع أي تتَّخذ طابعاً كونيّا. وعليه من الضرورة التأكيد على أن تناول الموضوع سيركِّز أساساً على تأثير العلوم الإنسانيَّة في الفكر الديني ومساءلتها له ولإرثه، ومدى أهمّيَّة هذه العلوم في إنارة التجربة الدينيَّة لدى الإنسان في حدود العقل وحده، إن جاز لنا استعارة هذه العبارة الكانطيَّة. كما أنه لا بد من التأكيد أيضاً على أنَّ الفكر التنويري لا يجب فهمه باعتباره ندّاً لكل ما هو ديني/ لاهوتي، فهو لا يقتصر على التجربة الدينيَّة فقط. بل يُعدّ فكراً حرّاً  ضدّ كل أشكال الفكر الوثوقي الدوغمائي، أيّاً كانت منابعه؛ دينيَّة كانت، أو ايدولوجيَّة، أو علميَّة أو غيرها.

ولكي لا نسقط في فهم التنوير كنقيض للدين، والذي حتى في التجربة الأوروبيَّة لم يكن فيها حركة ضدّه، وإنما ضدّ التفسير الكنسي له. واحتكاره من قبل رجال الكنيسة  لأغراضٍ غير دينيَّة تحدُّ من حريَّة الإنسان واستعماله لعقله، لهذا نحدِّدُ مقاربة الموضوع في نقطتين عامّتين هما:

أولا: تناول تأثير العلوم الإنسانيَّة على الفكر الديني في أوروبا والعالم العربي- الإسلامي، وأهمّيتها في  تنميتها حسّ المساءلة والنقد، والفكر الحرّ المستقلّ ضدّ أي تطرُّف وتعصُّب.

ثانيا: الوقوف عند أهمّيّة كل من العلم الطبيعي والعلوم الإنسانيَّة في فهم العالم والذات. وخطر الوقوع في منزلقات الإيديولوجيَّة.

1- العلوم الإنسانيَّة والفكر الديني

 

  • تأثير العلوم الإنسانيَّة على الفكر الديني الأوروبي

 

لم يكن ظهور حركة التنوير الأوروبي، أمراً فجائيّاً أملته ظروف حتميَّة. فهي حركة نتجت عن “انتشار المعرفة العلميَّة، فعلى حين كان الناس في الماضي يسلمون بأمور كثيرة ارتكاناً إلى سلطة أرسطو والكنيسة أصبح الاتّجاه الجديد هو الاقتداء بآراء العلماء” .  وهذا الانتشار للمعرفة العلميَّة سيكون له تأثير على مختلف مستويات الحياة، إلا أن المعرفة العلميَّة هذه تدلُّ على جميع الحقول العلميَّة التي تجمع العلم الطبيعي والإنساني، بل والفكر الفلسفي عموما. وهو أمر يطرح سؤال ماهيَّة هذه العلوم؟ وهل للعلوم الإنسانيَّة دور فيها؟ فمن المعلوم أن حركة التنوير ارتبطت بأربع حركات كبرى كان لها الأثر الكبير في القطع مع مرحلة العصر الوسيط، وهي حركة النهضة، والحركة الإنسانيَّة، والإصلاح الديني، ثم الدراسات التجريبيَّة (خاصَّة حركة النقد مع أوكام)، هذه الحركات التي اهتمَّت بالإنسان عموما. وكل هذا  يدلُّ على أن الحركة العلميَّة كانت تجعل محورها الأساسي، الذات الإنسانيَّة في شتَّى مناحيها. ولكنه اهتمام وإن كان يؤكِّد الدور الذي لعبته العلوم الإنسانيَّة في التنوير الأوروبي، فإن الدور الكبير كان من نصيب العلم الطبيعي أولا، فالثورة العلميَّة الكبرى التي مهَّدت لهذا العصر الجديد هي الثورة “الغاليليَّة”، كثورة خلخلت الفكر العلمي والديني معا، أي الفكر الذي ساد العصور السابقة، “فالثورة الغاليليَّة ألغت كليّاً العلم الأرسطو طاليسي، بل أزالت الإشكاليَّة الأرسطوطاليسيَّة من أساسها وشكَّلت بداية جديدة فعلا”، لعصر التنوير. وقد لا يجوز لنا قطعاً أن نتحدَّث بالمعنى الدقيق عن علوم إنسانيَّة في بداية هذا العصر، لكن  ذلك لا يمنع من التأكيد على حضورها وأهمّيتها. فالفكر الفلسفي والعلمي آنذاك كان يشمل كل الدراسات الاجتماعيَّة والتاريخيَّة والقانونيَّة والجغرافيَّة والنفسيَّة، والتي ستعرف لاحقاً بالعلوم الإنسانيَّة. وجميع الفلاسفة الذين حاولوا فهم  الذات الإنسانيَّة، اهتمّوا بجانب من هذه العلوم في نظريّاتهم المختلفة. فشكل ذلك بوادر أولى لفهم الإنسان من جوانب نفسيَّة واجتماعيَّة، سياسيَّة وتاريخيَّة وحقوقيَّة، ما يؤشِّر على ما هو سيوسيولوجي وتاريخي وسياسي بل وانتربولوجي أيضا. وهي دراسات أسَّست لاحقاً للعلوم الإنسانيَّة بالمعنى الدقيق للكلمة. وجميعها أدَّت دوراً مهمّاً في نشر الفكر المستنير، وواجهت التفسيرات الكنسيَّة التي كانت مبنيَّة على أهواء “البابوات” وعلى كافة الأصعدة. هكذا ولأنه بعدما “حصلت الثورة في مجال العلوم على يد غاليلو وديكارت وكبلر ولبنير وهيوجين ونيوتن. لم يعد بعد ممكناً أن تظل الأمور على حالها في بقيّة القطاعات الأخرى. بمعنى آخر؛ إنَّ الثورة العلميَّة ستستدعي ثورة دينيَّة وثورة سياسيَّة، وذلك لكي يصبح التطوّر متساوقاً على كافَّة المستويات، فلا يبدو مختلا ولا أعرج ناقصا.”

إنَّ إصلاح الفكر الديني الأوروبي هذا لم يكن ليحصل دون الحركة العلميَّة، ” فإذا كان أحد أهداف الدين أن يحرِّر الجنس البشري إلى أبعد حدٍّ مستطاع من أغلال الأطماع الأنانيَّة والشهوات والمخاوف، فإن الفكر العلمي تمكَّنَ من أن يساند الدين بمعنى آخر جديد”، خاصَّة في التخلُّص من الفكر الديني الكنسي لصالح دين خالٍ من إضافات البشريَّة والتأويلات الناقصة وغير العقلانيَّة التي كبَّلت العقل. ولكن لا يجب كذلك أن يؤخذ التنوير هنا على أنه حركة لاغية لكل ما هو ديني، وإظهاره في علاقة صراعيَّة. فالإصلاح الديني الأوروبي لم يجعل العلاقة بالدين علاقة قطيعة تامَّة، وإنما سعى إلى بلورة حركة تصحيحيَّة لكل ما شاب هذا الدين من تخريفات وأوهام بشريَّة، جاءت نتاجاً للمسار التاريخي الذي مرَّ به.  “فالعلم بدون الدين أعرج عاجز، والدين بدون علم أعمى يتخبَّط في الظلام”. هذه الظلمات التي تتجلَّى في الدين الطقوسي الشعائري المنخور من جوهره، إذن فحركة الإصلاح الديني سعت لبناء دين عقلاني كوني متسامح يخرج الناس من الظلام إلى النور، هذا النور الذي سيكون للعلم قيمة كبرى في إشعاعه. فعلم السياسة كأحد العلوم التي تهتمّ بالإنسان ستعنى بتحرير السلطة السياسيَّة، من سطوة الكنسية فتصبح سلطة زمنيَّة. وسصير معها شأن تدبير أمور الناس شأنا إنسانيّاً مدنيّاً وليس إلهيّاً لاهوتيّا. وهو فعل بدأت بوادره مع “مكيافلي” وتوّجت مع اسبيوزا في مؤلّفه العظيم “رسالة في اللاهوت والسياسة” والذي يعدُّ أعظم كتاب تنويري في الفكر الأوروبي والعالمي معا. إضافة إلى  بروز الفكر الوضعي مع “أوغست كونت” الذي حاول دراسة الظواهر الإنسانيَّة دراسة وضعيَّة اقتداءً بما حقّقته العلوم الطبيعيَّة والحقّة من نتائج، أمكن الاعتماد عليها في بناء علوم تدرس على المنوال نفسه الظواهر الإنسانيَّة. وهكذا فالظاهرة الدينيَّة هي الأخرى سيتمّ التعامل معها بطريقة وضعيَّة؛ أي دراستها دراسة تاريخيَّة نقديَّة تحت اعتبار أن “الظروف التاريخيَّة والاستعمالات الثقافيَّة والتعبيرات المجتمعيَّة، هي التي شوَّهت ولوّثت هذه التجربة الفطريَّة (الدين) وحجبتها عن الناس وغطَّت جوهرها ووضعت وفقها طبقات من الآراء والأوثان والخرافات، وذلك من أجل تبرير السلطة والرغبة في المنفعة”، فكان لزاماً أن يدرس الفكر الديني بعيداً عن أي مصلحة واعتبارات ذاتيَّة، دراسة تستند إلى العقل السليم. فبدأ العلم في مقاربة الدين من خلال حقول علميَّة اجتماعيَّة ترتبط بعلم النفس الديني الذي يتناول الظواهر الدينيَّة من الناحية النفسيَّة، وتاريخ الدين الذي يبحث في أشكاله التاريخيَّة والممارسات الدينيَّة، ثم نظريّة المعرفة في الدين كنظريَّة تسعى إلى فهم نسبيَّة الحقيقة الدينيَّة وصلاحيتها، إضافة إلى ميتافيزيقيا الدين والتي تنظر في فكرة الله. فلا يمكن دراسة الدين دون هذه المجالات العلميَّة حسب “ارنست ترولتش”، أحد أبرز ممثّلي فلسفة الدين بألمانيا. هكذا ورغم التحفّظ عن التأكيد على فكرة وجود علوم إنسانيَّة في بداية عصر التنوير، إلا أنَّ العلوم الإنسانيَّة والدراسات الإنسانيَّة كان لها الفضل الكبير في التأثير على الفهم الدقيق والصحيح للفكر الديني الأوروبي. وما يبرِّر هذا التحفّظ هو أن مثلا  “علم النفس بالمعنى الصحيح لم ينشأ حقيقة إلا بعد “لوك” و “كوندياك” بزمن طويل. وذلك على الرغم من أنهما مهَّدا الطريق أمام نشأته، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن هذا العلم لم ينشأ حقيقة إلا بعد أن اهتدى الباحثون في نهاية الأمر إلى الفكرة الآتية، وهي تلك التي تقول إنّه من الممكن بل من الواجب أن تدرس حالات الشعور دراسة “موضوعيَّة” بدل أن تدرس دراسة “شخصيَّة”؛ أي حسب وجهة نظر شعور الفرد”، وقس على ذلك في جميع العلوم الإنسانيَّة، فاستقلال هذه الأخيرة وموضعتها كعلوم مستقلَّة جاء متأخِّراً نوعاً ما عن المراحل الأولى لفكر الأنوار،  لكن ذلك لا يلغي دورها في مهمَّة التنوير وتجديد وتصحيح الفكر الديني، بل وعلمنة الحياة بالعالم الأوروبي والسماح للفكر الوضعي والمدني أن ينتشر على حساب الفكر الخرافي والأسطوري القروسطي القديم. إذ ظلَّ الفلاسفة طيلة عهد الأنوار الذي بدأ بالثورة الغاليليّة وتوّج مع القرن 18م، لهم اهتمامات شكَّلت تمهيداً للعلوم الإنسانيَّة عموما، ما يسمح بالقول إنّها كانت -أي العلوم الإنسانيَّة- لها فاعليَّة بالغة الأهمّيَّة في التنوير، والتنوير الديني على الخصوص.

ب -العلوم الإنسانيَّة والنص الديني في العالم العربي

إذا كانت التجربة الأوروبيَّة، فيما يخصّ الاهتمام بالنص الديني. قد كرّست عقوداً بل وقرونا من الزمن. وهي تسعى إلى التحليل والنقد والمساءلة للخطاب الديني المسيحي- اليهودي. ومن منطلقات متعدِّدة فلسفيَّة وسوسيولوجيَّة وسيكولوجيَّة وتاريخيَّة. بل والآن تقنو-علويّة، فإنَّ النص الديني في العالم العربي- الإسلامي، لم يحظَ بهذا الاهتمام الكبير. فالنص الديني وعلى طول خريطة العالم الإسلامي، ما يزال في أمسِّ الحاجة إلى مقاربات فلسفيَّة وسوسيولوجيَّة وسيكولوجيَّة وانتربولوجيَّة وتاريخيَّة معمَّقة، تسائل إرثه الفكري الضخم. هذا الإرث الذي رغم المحاولات التاريخيَّة لإخضاعه للمساءلة والنقد والتجديد بقي محافظاً على صنميّته ومصداقيته المطلقة. هذه الصنميَّة التي كرَّسها  فقهاء الدين والأنظمة السياسيَّة المستبدَّة عبر مساره التاريخي. فمنذ “حركة” علماء الكلام (علم الكلام) وصولاً إلى الفكر الرشدي في الأندلس عرفت المحاولات المعقلنة  للفكر الديني الإسلامي مواجهة ومقاومة واغتيالاً لإعمال العقل في تأويل النصوص والأحاديث. ما أدَّى بالتفكير في الدين إلى أن يبقى محصوراً في دائرة الفقهي، وما يخدم أجندة السياسي فقط، فصنّفت مؤلّفات عدَّة حول النص الديني وأخذت بدورها صفة القداسة. وإذا كانت العلوم الإنسانيَّة لم تبلور في فترة القرون الوسطى بالشكل الذي ظهرت فيه بأروبا العصر الحديث، كعلوم وضعيَّة، فإن الحديث عن أثر لها على الفكر الديني حينها أمر مجحف. إذ أنه حتى ابن خلدون الذي يعدّ أحد أبرز الممهّدين لعلم الاجتماع في نظريته حول العمران البشري، لم تحظَ عنده الظاهرة الدينيَّة بالقسط المهمّ والأوفر، اللهم تناوله كفقيه وليس كمؤرِّخ أو عالم اجتماع، بل ويمكن القول إن ابن رشد من منظور فلسفي قام بدور كبير في السعي بالخطاب الديني الإسلامي نحو العقلنة. أمّا المحاولات التجديديَّة التي ستأتي متأخِّرة جدا، أي مع صدمة الاستعمار وبداية تشكيل النهضة العربيَّة ووعي جديد، هي الأخرى لم تستطع تجاوز الخطوط التي وضعها العلم الفقهي. إضافة إلى  البوادر التي جاء بها الاستشراق الغربي والتي لم تكن نزيهة ومستقلَّة بشكلٍ أكبر. وبعد ذلك التجارب الإسلاميَّة التي عرفتها فترة أواخر القرن 20م والتي كرَّست نوعاً ما لصراع بين دعاة الأصوليَّة ورافضي الفكر الديني عموما، غير أنه لا يمكن إنكار بعض الدراسات التي دفعت بسؤال الإسلام ومساءلته نحو الأمام وفتحته على الحقول العلميَّة الإنسانيَّة والتي تعتبر موجة البحث والتفكير العقلاني في الدين الإسلامي الآن نتيجة لها. وهذا يسمح بالقول إنَّ النص الديني الإسلامي خصوصاً بالعالم العربي، ما زال يعيش تجربة مساءلته سوسيولوجيّاً ونفسيّاً وأنتربولوجيّاً وتاريخيّاً، سواء من لدن باحثين عرب أم غربيين، والدليل على ذلك الانتشار الكبير لمراكز البحوث والدراسات التي تعنى بحقل البحث في كل ما هو إسلامي، وأيضاً الاهتمام الكبير بالإسلام عالميّا، ما دفع بالبعض إلى أنه أصبح يتحدَّث عن “علم الإسلام” .رغم أن هذا الاهتمام الجديد لم يجد الطريق مفروشاً بالورود فقد اصطدم بالحركات الأصوليَّة التي ترفض إخراج النص الإسلامي عن الفهم التقليدي الذي  تمَّ في العصور الأولى لظهور الوحي. إضافة إلى المقاومة التي يلقاها من طرف السلطات السياسيَّة التي تفضِّل المحافظة، وترى في الفهم الجديد للفكر الديني تهديداً لشرعيَّة سلطتها، التي لا تخرج عن الإطار الديني القروسطي، لهذا لا غرابة في مصادرتها للكتب العلميَّة التي تقرأ الإسلام سوسيولوجيّاً وسيكولوجيّاً وتاريخيّاً وانتربولوجيّا. فملاحقة المفكِّرين لا تتمّ من الناس العاديّين، وإنما من الجهات التي تخشى انهيار النسق الفكري الذي تؤسِّس عليه سلطتها -الدينيَّة أو السياسيَّة – وليس غريباً أيضا أن يتحالف السياسي والديني في هذا الصدد. فمع أنهما يبدوان في صراعٍ معلن إلا أنَّ بينهما علاقة حميميَّة في الخفاء، وكلاهما يغذِّي استمرار الطرف الآخر. فالمتأمِّل لوضع الإنسان العربي الحالي يكتشف أن هناك حاجة ماسَّة لديه لتجديد الفكر الديني، بل ويجد قبولاً لفهمٍ ديني يتماشى والعصر. غير أن هذا التحالف بين الاستبداد والفكر الأصولي قوَّض فرص إنتاج خطاب ديني منفتح ومتسامح ومتحاور مع الأديان الأخرى، وبين المذاهب الدينيَّة في ما بينهما، وحرم الفرد العربي- الإسلامي من أن يحيا حياة كريمة. وهي مشكلة ستجعل العلوم الإنسانيَّة في البلدان العربيَّة مرفوضة، وسيتم تعليمها بطرق كلاسيكيَّة جدا، وعن قصدٍ أيضا، فطريقة تدريس هذه العلوم ما تزال “في عالم الهدر مجالاً مستباحاً لتدخّل الإيديولوجيّات والتحيّزات والأهواء في موضوعها ذاته”، فهي غالباً ما تركِّز على تدريس تاريخ هذه العلوم وبعض المعارف العامَّة والأعلام والتيّارات، دون أن تمكِّن الفرد من  آليّات التحليل والنقد والمساءلة والشكّ وغيرها من آليّات التحليل الاجتماعي للظواهر. إنَّ العلوم الإنسانيَّة هي العلوم التي تهدم أي فكر غير محصَّن عقليّاً دائما، وهو ما جعلها غير مرغوبة.  فلولاها ما حدث ما حدث في الغرب من تحوّلات دينيَّة وسياسيَّة وعلميَّة واقتصاديَّة. هكذا لن يكون مرحّباً بها بالشكل الصحيح، والمقبول الذي يصلح الفرد، “ولأن الإصلاح بالضرورة يمرُّ بإصلاح الفرد ويصبح هكذا إصلاحا، ذاتيّا “؛ حسب المفكِّر الفرنسي إدغار موران. فإنَّ تكوين الفرد المستقلّ فكريّاً في العالم العربي تبقى إمكانيَّة وجوده مهدورة وغير مرغوب فيها، ما يزيد من حدّة التعصّب والتطرّف الذي يولده الفراغ الذاتي،على كافة الجوانب وفي غيابٍ للحريَّة والاستقلاليَّة. وبالخصوص الفراغ الروحي الذي يرمي بالشباب في أتون مواجهات لا يدركون هدفهم  منها، صحيح أن “كل جماعة تحتاج لكي تقوم وتستمر، بالإضافة إلى العلم والتقنية إلى أطر مرجعيَّة روحيَّة ورمزيَّة وأخلاقيَّة تكون مصدر تواصلها وإلهامها ” ، تشكِّلُ سنداً روحيّاً مع شرط أن يكون  متفاعلاً مع روح العصر، ويتَّجه نحو الكوني. وهو أمر لا يتأتَّى إلا بالمساءلة العلميَّة النزيهة والجادَّة، وذلك له  بوادر ملموسة حاليّاً، لكنّهُ يحتاج إلى جهات ليبيراليَّة لتحصينه ضدّ المقاولة الأصوليَّة، والتي تنصِّب نفسها حارسة للحقيقة الدينيَّة. ولأنه لا نهضة وتجديد للفكر ورقي بالفرد دون “إيمان بقدرة الوعي الإنساني على إدراك الواقع بحريَّة وإبداعيَّة، واستيعابه بما فيه من تراث وجدَّة في الوقت نفسه، أي بقدرته على الارتفاع فوق الحداثة والتراث، فوق الإيديولوجيّات. وفوق التقاليد من أي نوع، وإذا كان هذا الوعي مستحيلا فليس هناك أيَّة إمكانيَّة للتغيير ولا التجديد” . هذا التغيير والتجديد الذي عليه أن يمسَّ بنية الوعي الديني ورواسبه العالقة بذهنيَّة الإنسان العربي، والتي تعدّ  مصدر كل تعصب وتخلُّف. إنَّ فهم الإسلام بشكل معقلن يبدو أنه ينمو بالغرب أكثر منه بالبلدان الإسلاميَّة، فلا يكون اهتمام المسلمين بالإسلام ودراسته، إلا اهتماماً بمقاربة المقاربات الغربيَّة له. وما يدلُّ على فاعليَّة الفرد المسلم  بشكل أكبر وعلى نطاق واسع، أنه في ندوة أقيمت “بكابري” تحت إشراف “جاك دريدا” و”جياني فاثيمو” حول الدين قال “جاك دريدا” : ” نأسف لعدم وجود أي مسلم بيننا، على الأقل في هذه الجلسة التحضيريَّة، في الوقت الذي يتعيَّن علينا فيه، أن نوجِّه أنظارنا إلى الإسلام إن كان ينم هذا عن شيء إنما ينم عن غياب للمفكّرين الإسلاميّين وعدم فاعليتهم في الاهتمام بالحقل الديني والدراسات الدينيَّة ولو كان الأمر يتعلَّق بتراثهم  الديني.

2-  العلم الطبيعي والعلوم الإنسانيَّة ومنزلقات الأيديولوجيَّة

يقول كارل بوبر “إحدى المهامّ الأساسيَّة للعقل البشري هي أن يجعل الكون الذي نحيا فيه مفهوماً لنا. وتلك مهمّة العلم”،لكن هل يعني هذا أن العقل ينتج فقط ما هو علمي؟ أو بالأحرى هل كل ما هو علمي دقيق وحقيقي؟ ألا ينتج العقل والعلم غير الحقيقي؟ إذا سلّمنا بأن العلم ليس سوى “فاعليَّة جزئيَّة من فاعليات العقل وصناعة لا تنمو وتزدهر إلا في سياق تطوّر عقلي متكامل يتاح فيه لكل الفاعليّات الذهنيَّة الأخرى الإيديولوجيَّة والاعتقاديَّة والرمزيَّة، أن تتكوَّر وتنمو في الوقت ذاته” . وإذا كان العقل لا ينتج فقط العلمي بل إنتاجات متعدّدة، فكيف يمكن للعلم أن يتجاوز هذه الإنتاجات غير المرغوب فيها؟ وأبرز ذلك السقوط في منزلقات الإيديولوجيَّة، بحيث يصبح العلم يخدم أهدافاً غير علميَّة. أي لا يحقِّق أبرز شروط العلميَّة وهو شرط الموضوعيَّة أو الحياد القيمي، هذا الحياد الذي وإن كان ممكناً بشكل كبير على مستوى العلوم الطبيعيَّة والحقَّة  لطبيعة موضوعها. فإنّه في العلوم الإنسانيَّة يبدو حياد الباحث أبرز المشكلات المعرفيَّة الكبرى التي تعانيها هذه العلوم، فإذا كانت العلوم الطبيعيَّة تسمح للباحث بأن يكون مستقلا عن موضوع دراسته الذي هو المادَّة، فإن العلوم الإنسانيَّة لا تترك هامش هذه المسافة للباحث الاجتماعي الذي يتجلَّى في الإنسان ذاته أو وعيه أو سلوكه الذي هو نتاج وعيه أيضا. فتكون العلوم الإنسانيَّة أكثر عرضة للوقوع في منزلقات غير علميَّة وأبرزها الإيديولوجيَّة كتفكير تنبع  شرعيته من “استجابة العقل لحاجات أخرى، غير الحاجات العلميَّة والتقنية. أي من الردّ على مطالب لا تجد مكانها في الساحة العلميَّة، وإنما في الساحة الاجتماعيَّة – السياسيَّة- الثقافيَّة العامَّة”. فتفتقد بذلك العلوم الإنسانيَّة لشرط الموضوعيَّة وهو شرط حاول المنظّرون لهذه للعلوم تلافيه بطرقٍ عدَّة أبرزها موضعة الظاهرة الإنسانيَّة ودراستها كأشياء خارجة عن ذات الباحث، كما ذهب إلى ذلك “إميل دوركايم” في قواعد المنهج السوسيولوجي” ومن قبله “أغست كونت”. فعلى مستوى هذه المشكلة الإستمولوجيَّة يكمن الفرق بين العلوم الطبيعيَّة والعلوم الإنسانيَّة، فالتعامل مع المادَّة التي ليست وعياً تسمح لعالم الطبيعة أن لا يسقط ذاتيَّة وانفعالاته وعواطفه عليها إلا نادراً عندما يكون الهدف من بحثه العلمي خدمة أجندة معينة غير علميَّة. على عكس عالم الإنسان فهو يجد نفسه جزءاً من موضوعه ولا مجال للحياد، حتى وإن تحرى ذلك وسعى إليه؛ إذ ليست العلوم الإنسانيَّة ” كالعلوم الفيزيائيَّة الكيميائيَّة دراسة لوقائع خارجيَّة عن الناس وقائع عالم يتوجَّه إليه فعله. إنها بالعكس من ذلك دراسة لهذا الفعل نفسه ولبنيته والتطلّعات التي تحييه والتحوّلات التي يخضع لها”. هكذا تكون الظاهرة الإنسانيَّة وعياً والذي يتناولها وعي. وإذا ما حاولنا الربط بين هذه المشكلة التي تعاني منها العلوم الإنسانيَّة بمسألة تأثيرها على فهم الفكر الديني، فإن المعرفة التي ستنتجها تبقى نسبيَّة وغير خالية دائما من إمكانيَّة السقوط في الذاتيَّة والإيديولوجيَّة، وحملها لخلفيّات الباحث الذي قد يصعب عليه التحرّر منها ويتناول الظاهرة العلميَّة خارج ميدانها،لأنَّ “مشروعيَّة العلم نابعة بالضبط من أنه يرفض أن يكون إيديولوجيَّة”.

عموماً يمكن القول:  

  • إنَّ العلوم الإنسانيَّة في المجال الأوروبي ساعدت على فهم الخطاب الديني المسيحي – اليهودي وأخضعته للمساءلة النقديَّة والعقليَّة، أما في العالم العربي – الإسلامي، فإن هذه التجربة ما تزال معيشة، رغم العوائق. لكن الواقع يكشف على وجود رغبة حقيقيَّة لذلك، هذه الرغبة التي لا بدّ من تحصينها من قبل جهات تؤمن بالفكر الحر، خشية أن يكبحها الفكر الأصولي المتشدِّد والفكر الاستبدادي.
  • ضرورة الإقرار بنسبيَّة العلوم الإنسانيَّة، وتجنّب فكرة جعل العلم والدين في صراع لا يمكن معه  إقامة أي جسور للحوار والتواصل.
  • السعي الحثيث إلى إعطاء أهمّيَّة كبرى للعلوم الإنسانيَّة خاصَّة والعلوم الأخرى عامَّة في فهم الفكر الديني الإسلامي. وهذا لن يكون دون إعادة النظر في طرق وأدوات تدريسها، وتكوين الباحثين فيها.
    _______
    [1]  محمد محمد قاسم ” مدخل إلى الفلسفة ” دار النهضة العربية، بيروت- لبنان، ط 1، 2001، ص 75.[1]  برتراند راسل ” حكمة الغرب” ت . فؤاد زكريا، عالم المعرفة، العدد 365، ج 2 . يوليو 2009 / ص 126 .

    [1]  هاشم صالح ” مدخل إلى التنوير الأوروبي” دار الطليعة للطباعة والنشر ورابطة العقلانيّين العرب، لبنان، ط 1، 2005 / ص 132.

    [1]  هاشم صالح، المرجع السابق، ص 137.

    [1]  البرت انشتاين ” الدين والعلم ألا يتفقان؟ ” ت، رمسيس شحاتة، مجلة الإيمان، العدد 1و2، 2016، العراق / ص 57.

    [1]  البرت انشتاين، المرجع السابق. ص 50.

    [1]  الخويلدي زهير، مقال على مجلة الأيمان، العدد 1و2، 2016 العراق / ص 425.

    [1]  اميل دوركايم ” قواعد المنهج في علم الاجتماع” ت، محمود قاسم، م محمد بدوي، مكتبة مطبعة النهضة المصرية .1974 / ص 94.

    [1]  حجازي مصطفى ” الإنسان المهدور ” المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب، ط 1، 2005 / ص 191.

    [1]  ادغار موران، حوار أجراه معه “لورانس بانسكي ” ترجمة كريم عبد الرحمان، مجلة الاستغراب، العدد 8، السنة 3، 2017 / ص 33.

    [1]  غليون برهان ” اغتيال العقل” المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ا- المغرب، ط 6، 2012/ ص 26.

    [1]  غليون برهان، المرجع السابق، ص 285.

    [1]  جاك دريدا وجياني فاتيمو ” الدين في عالمنا” ت، محمد الهلالي وحسن العمراني، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 2004 / ص 13.

    [1]  بوبر كارل ” أسطورة الإطار” ت يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، العدد 292، 2003 / ص 69.

    [1]  غليون برهان، مرجع سابق، ص 193.

    [1]  غليون برهان المرجع نفسه ن ص 194.

    [1]  غولدمان لوسيان ” العلوم الإنسانية والفلسفة ” ت، يوسف الأنطكي، م محمد برادة، المجلس الأعلى للثقافة، 1996 / ص 59.

    [1]  غليون برهان، مرجع سابق، ص 194.

جديدنا