دور العلوم الإنسانيَّة في التأسيس لعلم التنمية البشريَّة

image_pdf

يعتبر ما يصطلح عليه في وقتنا الراهن بــ”علم التنمية البشرية ”، من العلوم الجديدة التي يتمّ تداولها على نطاقٍ واسع، سواء من خلال الكمّ الهائل من الإصدارات والمنشورات التي تهتمُّ بهذا العلم وتبحث فيه، وتعمل على تنزيل  تطبيقاته المتنوّعة من أجل رفع قدرات الإنسان وتعليمه عدداً كبيراً من المهارات والتقنيات والمعارف المختلفة، أو من خلال مساهمة هذا العلم في بناء حقائب تدريبيَّة في تخصّصات ومواضيع مختلفة، لمساعدة الناس على امتلاك آليّات جديدة لتسيير وإدارة حياتهم بشكلٍ أفضل، ومواجهة الصعوبات التي تقف في طريق تقدّمهم في الحياة ومراكمة إنجازات ونجاحات فيها.

لقد كان للعلوم الإنسانيَّة بشكلٍ عام، وعلم الاجتماع وعلم النفس على وجه الخصوص دور كبير في وضع المعالم الأولى لعلم “التنمية البشريَّة”، حيث نجد أنَّ الرواد المؤسِّسين لهذا العلم في الولايات المتّحدة  كانت اهتماماتهم في الأساس وانشغالهم الرئيس على العلوم الإنسانيَّة، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، الكاتب والمؤلِّف الأمريكي الشهير ديل كارنيجي، الذي يُصنَّف على أنه من آباء هذا العلم ومن مؤسِّسيه الأوائل، الذين كتبوا فيه منذ الأربعينات من القرن الماضي، من خلال كتابه ذائع الصيت ” دع القلق وابدأ الحياة ” الذي ما زالت تباع فيه الآف النسخ عبر العالم رغم مرور أكثر من خمسين سنة على تأليفه، كما يمكن الحديث أيضاً عن الدكتور أبراهام ماسلو مبتكر نظريَّة هرم الاحتياجات الإنسانيَّة الذي سُمّيَ باسمه، والدكتور أبراهام  معروف باشتغاله على علم النفس سواء على المستوى النظري أو التطبيقي.

ومع تطوّر هذا العلم أصبح الاهتمام يتزايد به من طرف الجيل الثاني من المؤلِّفين والمحاضرين في التنمية البشريَّة من أمثال واين داير وستيفن كوفي، وبرايان تريسي وجاك كانفيلد وغيرهم، والذين لهم اهتمامات بشكلٍ أو بآخر في العلوم الإنسانيَّة، بل إنَّ اغلب مؤلّفاتهم تقوم على دراسة مجموعة من النظريّات العلميَّة في العلوم الإنسانيَّة والعمل على وضع تطبيقات لها من خلال هذه المؤلّفات.

لقد طُرِحَ سؤال تحويل نظريات العلوم الإنسانيَّة المختلفة وأفكارها التنظيريَّة إلى تطبيقات عمليَّة يمكن الاستفادة منها، مند زمن طويل، وقد نجحَ عدد محدود من الباحثين في هذه العلوم إلى تحويل بعض من هذه النظريات إلى أعمال تطبيقيَّة، ورغم ذلك ظل السؤال ملحّاً إلى أن برز “علم التنمية البشريَّة “، والذي في نظري هو أكبر علم ربطَ بين العلوم الإنسانيَّة ونظريات تطبيقيَّة مستوحاة من هذه العلوم، ويمكن ببحثٍ بسيط في الأنترنت العثور على عددٍ هائل من المؤلّفات والكتب التي تحتوي بين دفّتيها مجموعة من نظريات تطوير الذات وتغيير التفكير وبناء القدرات والمهارات التي أساسها علم النفس أو علم الاجتماع، والتي نجح مؤلّفو هذه الكتب في تحويلها لمواد تطبيقيَّة ساهمت بشكلٍ كبير في تطوير الإنسان المعاصر وجعله  يمتلك الآليّات والوسائل التي تساعده في تطوير ذاته ونجاحه في الحياة.

إنَّ ما يشهده العالم من توتُّر واضطرابات بشكل غير مسبوق، وظهور أمراض جديدة لها علاقة بالنفس البشريَّة والعلاقات الإنسانيَّة، سيجعل الحاجة لعلم التنمية البشريَّة في ازدياد، ما سيؤدّي  بشكلٍ مباشر إلى اللجوء من جديد إلى التطويرات الحديثة للعلوم الإنسانيَّة من أجل محاولة الاستفادة منها، وبناء  نظريات جديدة تساعد الإنسان على مواجهة تحدّياته النفسيَّة والاجتماعيَّة التي تفرض نفسها عليه بشكل مضطرد.

يمكن القول أيضاً، إنَّ “علم التنمية البشريَّة ” ساعدَ كثيراً في ربط العلوم الإنسانيَّة بشكلٍ عام بعدد من العلوم الأخرى التي لها علاقة بالجهاز العصبي للإنسان وطريقة عمل الدماغ وأداء الجسم، وذلك عبر نظريات تجمع بين أداء هذه الأعضاء والأجهزة في الإنسان، وتعلّمه وإتقانه لمجموعة من النظريّات في العلوم الإنسانيَّة، و يمكن الاستدلال هنا بما قام به طبيب جراحة المخ الدكتور البريطاني إدوارد ديبونو، صاحب نظريَّة أنماط التفكير، أو القبَّعات الست للتفكير، والتي استخلصها من خلال عمله كجرّاح للدماغ وطريقة عمله، ودراسته العميقة للعلوم الإنسانيَّة المختلفة.

سيبقى الإنسان في حاجةٍ دائمة للعلوم الإنسانيَّة لمساعدته على تجاوز المعضلات التي سيواجهها في هذه الحياة سواء كانت ذات طابع فردي أو جماعي، فلا يمكن الاستغناء عن دور العلوم الإنسانيَّة مهما تطوّرت العلوم الأخرى، ومهما خلقت من الوسائل المساعدة للإنسان، لأنَّ هذا الأخير هو تركيبة معقّدة من المشاعر والعواطف والأحاسيس والأفكار، يحتاج معها دوماً لإعادة تفكير وترتيب ومسح وبناء وتغيير،  وهذه الأشياء لا يعطيها للإنسان سوى علوم تشتقُّ جزءاً من اسمها من اسمه؛ إنها ” العلوم الإنسانيَّة”.

جديدنا