الترجمة والفلسفة

image_pdf

لقد عبَّر القدامى من العرب والمسلمين عن إشكاليَّة الترجمة، بشكل يُظهِر وعيهم الكامل بها ودرايتهم العميقة بصعوباتها، فلا يخلو تأليف من مؤلفاتهم، في مجال من المجالات من ذكرٍ أو إشارة لها، تُظهِر مدى ما لقيته عندهم من حفاوة واهتمام.

لذلك نقترح الوقوف على جوانب من ذلك الاهتمام، من خلال نصوص لنموذجين في فكرنا العربي والإسلامي هما الفارابي وابن تيمية.

1-الرابطة المنطقية وإشكالية الترجمة:

يقول الفارابي(260ه339ه/874م950م): “فلما انتقلت الفلسفة إلى العرب واحتاجت الفلاسفة الذين يتكلمون بالعربية ويجعلون عبارتهم عن المعاني التي في الفلسفة وفي المنطق بلسان العرب، ولم يجدوا في لغة العرب منذ أول ما وضعت لفظة ينقلون بها الأمكنة التي تستعمل فيها » أستين « في اليونانية و  » هست « بالفارسية فيجعلونها تقوم مقام هذه الألفاظ في الأمكنة التي يستعملها فيها سائر الأمم، فبعضهم رأى أن يستعمل لفظة » هو « مكان » هست « بالفارسية. و» أستن «باليونانية”. (كتاب الحروف، ص122) إن هذا النص يلخص وبعمق الإشكالية اللغوية في ترجمة الفلسفة عند العرب والمسلمين، والتي رافقت مسيرة التفلسف عندهم، بداية باكتشافها لدى الأمم المجاورة، ثم انبعاث حركة النقل والترجمة، وتميز هذا الجو الذي رافق تشكل فكرنا الفلسفي العربي والإسلامي، معاناة مشاكل الترجمة وصعوباتها وما تخلفه من اضطراب في المعاني واشتراك في الأسماء، والأمثلة كثيرة لمصطلحات عجز تراجمنا وفلاسفتنا عن إيجاد  لفظة لها بالعربية.

ويقدم الفارابي نموذج لفظ “أستين” اليوناني و”هست” في الفارسية، الذي خلق قلقا لدى الفلاسفة العرب، فاللفظ لم يجدوا له في العربية ما يفيد معناه، فهذا اللفظ يستعمل عند اليونان والفرس ” في الدلالة على رابط الخبر بالمخبر عنه” ويضيف الفارابي: “وهو الذي يربط المحمول بالموضوع متى كان المحمول اسما، أو أرادوا أن يكون المحمول مرتبطا بالموضوع ارتباطا بإطلاق من غير زمان”(كتاب الحروف، ص111). هنا تظهر صعوبة ترجمة “أستن” اليونانية؛ لأنها رابطة منطقية تصل بين الموضوع والمحمول، وتدخل في تشكيل القضايا، لكن الفارابي يذكر أن الفلاسفة انقسموا في ترجمتها فريقين فبعضهم ترجمها بـ”هو” والبعض بـ”الموجود”، ويقول: “واستعملوا لفظة الموجود في المكانين، في الدلالة على الأشياء كلها وفي أن يربط الاسم المحمول بالموضوع حيث يقصد أن لا يذكر في القضية زمان”(كتاب الحروف، ص113). ولا ينبغي أن يفهم الموجود بمعناه لدى الجمهور، لأنه غير مقصود أبدا، “بل يستعمل في العربية على ما تدل عليه “هست” في الفارسية و”استين” في اليونانية ” ويحاول الفارابي تقريب ذلك المعنى فيقول: “على مثال قولنا شيء “(كتاب الحروف، ص114).

وينتهي الفارابي إلى أن هذا اللفظ مضلل كثيرا ولا يسلم الإنسان من الغلط في استعماله، لذلك فكثير من الناس يتجنبونه باستعمال “هو” أو “الهوية” “وأما أنا فإني أرى أن الإنسان له أن يستعمل أيهما شاء”(كتاب الحروف، ص114-115).

نخلص مع الفارابي إلى ما يلي:

  1. الترجمة نشاط يتداخل فيه الفلسفي واللغوي.
  2. لا يفهم المصطلح الفلسفي إلا بالوقوف على صعوبات ترجمته.
  3. ضرورة إبداع المصطلح إن خلت اللغة منه.

2-شروط الترجمة عند ابن تيمية:

يقول ابن تيمية(661ه728ه/1263م1328م): “فالمترجم لا بد أن يعرف اللغتين: التي يترجمها، والتي يترجم بها، وإذا عرف أن المعنى الذي يقصد بهذا الاسم في هذه اللغة هو المعنى الذي يقصد به في اللغة الأخرى وترجمه، كما يترجم اسم الخبز، والماء، والأكل، والشرب، والسماء، والأرض، والليل، والنهار، والشمس، والقمر، ونحو ذلك من أسماء الأعيان والأجناس وما تضمنته من الأشخاص، سواء كانت مسمياتها أعيانا أو معاني”(الرد على المنطقيين، ص90). يظهر أن صاحب الرد على المنطقيين، كان مهتما بالترجمة وقضاياها، ولا غرابة في ذلك، فإمام المعارضين للفلسفة والفلاسفة، ظهر له أن أزمة المصطلح الفلسفي لا تنفصل عن مشكلة الترجمة والنقل من اللسان اليوناني، وأغلب انتقاداته تتأسس على صعوبة نقل المصطلح من لغة إلى لغة، والمنطق عنده خير دليل.

ويقدم ابن تيمية في نص آخر صعوبات الترجمة فيقول: “والترجمة تكون للمفردات وللكلام المؤلف التام، وإن كان كثير من الترجمة لا يأتي بحقيقة المعنى، التي في تلك اللغة، بل بما يقاربه، لأن تلك المعاني قد لا تكون لها في اللغة الأخرى ألفاظ تطابقها على الحقيقة، لاسيما لغة العرب، فإن لترجمتها في الغالب تقريب، ومن هذا الباب ذكر غريب القرآن، والحديث، وغيرها. بل وتفسير القرآن، وغيره من سائر أنواع الكلام”.(الرد على المنطقيين، ص90)

خاتمة:

نخلص في الأخير إلى أن العرب والمسلمين أدركوا إشكالية الترجمة منذ وقت مبكر، أي منذ احتكاكهم بالحضارات المجاورة، وقد مارسوا الترجمة وعانوا صعوباتها، وحاولوا حلها عن طريق البحث في اللغة والمصطلحات، ولذلك وضعوا المعاجم الفلسفية منذ بداية حركة النقل والترجمة، وهي ما كان يسمى بكتب الحدود، كما نعثر في مصنفاتهم على عبقرية قل نظيرها اليوم، اخترعوا الأسماء واشتقوا الألفاظ، وما لم يستطيعوا له سبيلا عربوه وتركوه في لفظه الأصلي. فكانت بذلك تجربتنا الفلسفية غنية ومتنوعة، لذا فإن أي انطلاقة لنا نحن المحدثين العرب من أجل تأسيس عهد جديد في الترجمة، يقتضي إلمام جيلنا الصاعد من المترجمين بهذه التجربة التاريخية، تجربة تراكمت حلقاتها في ثراء وتنوع.

مشكلات الترجمة: كتاب النفس لأرسطو(384ق.م/322ق.م) نموذجا.

كتاب النفس لأرسطو ترجمة اسحاق ابن حنين De lame tradu.j.tricot
“وليس يدرك العقل ولا يفهم شيئا بغير توهم” 25/430أ « et sans l’intellect agent.rien ne pense »

430a/25

“قول هوميروس: إن اقطر متغير بالعقل”30.25/404أ « hector était etendu la raison egaree »

404a/30

شعر ابن قليدس: “تعرف الأرض بالأرض والماء بالماء” « c’est par terre que nous voyons la terre par l’eau. L’eau »
“والهواء بالهواء والنار بالنار” « l’éther. Le divin éther. Le feu par le feu »
“والمودة هي الاتفاق مثلها، والغلبة هو الفساد بفساد ومهلك مثله”

15.10/404ب

« par l’amour. L’amour. Et la haine par la triste haine »404b /10.15

ملحوظة: هذه فقط بعض الأمثلة لما يلاحظه الباحث من اختلاف بين الترجمات لكتاب النفس من الصعب الحسم في سببها.

المصادر:

-الفارابي، أبونصر، كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، ط.2، دار الشروق، بيروت، 1990

-ابن تيمية، تقي الدين، كتاب الرد على المنطقيين، تحقيق عبد الصمد شرف الدين الكبتي، راجعه محمد طلحة بلال منيار، مؤسسة الريان، 2005

-Aristote. De l’ame. Traduction de Jules Tricot. Vrin. 1977

جديدنا