الأستاذ المفكِّر فى زمن الردَّة؛ محمود محمد طه (1908-1985)

image_pdf

 

 

مدخل إلى حياته:

يشار إليه أحياناً باسم (غاندي افريقيا) الأستاذ “الشهيد” الذي شارك في واحدة من أكثر المحاولات الجديَّة أواخر القرن العشرين للتوفيق بين المعتقدات الإسلامية والتحديات التي تفرضها الحداثة.

 

ولد الأستاذ محمود طه عام 1908 في رفاعة، وهي بلدة تقع بالقرب من النيل الأزرق، إلى الجنوب الشرقي من العاصمة السودانيّة “الخرطوم”، في وقت كانت السودان به خاضعة لحكم التحالف الإنجليزي المصري، حيث أن الكومنولثيّة البريطانية كانت هي الشريك المهيمن بطبيعة الحال. لم يكن الأستاذ طه مجرد شخصية فكرية بارزة فحسب، بل ناشطاً سياسياً منذ منتصف الأربعينيات وحتى إعدامه عام 1985، بالتالي تلقى تعليمه الأولي مثل العديد من معاصريه، في ظل نظام تعليمي إنجليزي أسسه البريطانيون ويُدار وفق سياستهم.

 

انتقل ليدرس الهندسة في كلية غوردون التذكارية، التي أصبحت في ما بعد جامعة الخرطوم، وتخرّج منها في العام 1936. لم تقتصر دراسته على العلوم الحديثة، بل أخذ على عاتقه البحث في الأفكار الاجتماعية والسياسية الغربية. وتبلور اهتمامه بالسياسة ليؤسس في العام 1945 الحزب الجمهوري الذي كان أول حزب سياسي في السودان يدعو إلى إنشاء جمهورية وطنية، بالتالي كان حزب تصادم مع الاستعمار البريطاني، وإن كان بطريقة لم تتسم بالعنف، وبنتيجة تلك الصدمات سجن البريطانيون طه مرتين؛ في العام 1946، فقضى في المرة الأولى خمسين يوماً في السجن، وفي المرة الثانية عامين، وسبب سجنه في المرة الثانية احتجاجاته الشعبية ضد محاولات البريطانيين  فرض الحظر على عادة ختان الإناث، التي كان طه نفسه ضد تلك العادة لأنه يراها ظاهرة تقليدية وليست إسلامية، ولكن السبب وراء احتجاجاته ضد البريطانيين كان لمحاولاتهم فرض قوانين على السودانيين.

 

المظاهرة الشهيرة التي نظمها، والتي اشتهرت  بـــ “حادثة رفاعة” ضد الاستعمار، كان أحد المشاركين فيها طفل يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً، يُدعى حسن الترابي الذي أصبح في ما بعد مفكراً وزعيماً سياسياً ودينياً.

 

بعد أن خرج طه من السجن في العام 1984، فرض على نفسه عزلة عن العالم حتى أواخر عام 1951، على الرغم من أنه خلال تلك المدة كان حزبه الجمهوري معطلاً، ولكن طه تمكّن في تلك المدة من تطوير أفكاره السياسية والاجتماعية والدينية التي ثابر على الترويج لها بقية حياته، وأصبح السودان جمهورية مستقلة في العام 1956.

 

في العام 1958، غيّر الحزب الجمهوري اسمه إلى حزب الإخوان الجمهوري، بعد عامين طُرد ثلاثة طلاب جمهوريين من معهد أم درمان للدراسات الدينية، الذي يعرف الآن بـ (جامعة أم درمان الأسلامية) بتهمة الردة. ووصف عميد المعهد أفكار طه بأنها منحرفة عن الإسلام. وفي العام 1964، قامت ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، التي أجبرت الرئيس عبود وقتها على تقديم استقالته والاستعاضة عنه بمجلس أعلى للدولة. ودخلت السودان في حرب أهلية بين الشمال والجنوب، وطالب الجنوبيون بحكم ذاتي أكبر. وأثناء تلك الفترة، تحسنت منزلة الجمهوريين بعض الشيء، وذلك عندما حاول البرلمان السوداني منع الحزب الشيوعي من ممارسة سياسته في العام 1967، فتحدّث طه عن حق الشيوعيين بحرية التعبير، بالطريقة نفسها التي احتج فيها ضد محاولة البريطانيين حظر ختان الإناث بينما كان هو ضد تلك العادة، احتج طه ضد محاولة حظر الحزب الشيوعي على الرغم من أنه كان يعارض الشيوعيين. بيد أن الإخوان رأوا في موقف طه دعماً للشيوعيين متجاهلين أن حزبه كان غالباً يعارض الشيوعيين. وفي عام 1968 طالب الإخوان بمحاكمة طه بتهمة الردة. وعقدت المحكمة، ولكن طه رفض الحضور على أساس أن الحكومة السودانية في ذلك الوقت، كانت بظاهرها حكومة علمانية، ولا يمكن لها أن تبت في نزاعات دينية في محكمة علمانية. مع هذا تمت المحاكمة، وفي غضون ثلاثة ساعات فقط، توصلت إلى حكم. ويقال إنه خلال المحاكمة  نظرت المحكمة في العديد من الأدلّة الموجهة ضد طه. وكانت بعض تلك الأدلّة تحريفاً لآراء طه، وتم إعلان حكم الردة عليه، وبقرارات لاحقة أيّد الأزهر في القاهرة، رابطة العالم الإسلامي وجهة النظر تلك. ومُنع طه والجمهوريين من المشاركة في الحياة السياسية.

 

في حين كانت المنظمة السياسية للإخوان المسلمين (جبهة الميثاق الإسلامي) منظمة صغيرة، إلا أنها كانت قادرة على أن تشكّل عامل ضغط لدفع قضية الدستور الإسلامي على جدول أعمال الحكومة. ولولا وقوع الانقلاب العسكري في عام 1969، فإن إجراءات إضافية ضد الجمهوريين كانت في طريقها للحدوث.

 

في مطلع كانون الثاني/ يناير 1985، ألقي القبض على طه وأربعة من المقربين ووجهت إليهم تهمة الردة مرة أخرى.  وكما حصل في المحاكمة السابقة؛ رفض طه الاعتراف بشرعية المحكمة التي استغرقت ساعتين للنطق بالحكم، وفي الثامن عشر من الشهر نفسه، أعدم طه في سجن كوبر بالخرطوم، ونقل جثمانه  على متن مروحية ودفن في مكان مجهول.

 

 

الفكرة الجمهورية:

أسس الأستاذ محمود بحركة التأليف، والنشر، ومنابر الحوار، وأركان النقاش التى تقام فى الطرقات العامة والميادين والحدائق ودور العلم والأحياء، ثورةً فكريةً لم ُيعرف لها ضريب فى تاريخ الأديان والأفكار،  حيث حمل هو وتلاميذه الفكرة الجمهورية الى كل مكان في السودان، يذهبون الى الشعب حيث يعيش، يحدثونه عن الدين، ويحاورونه،  وينقلون له النموذج الحي للاسلام المجسّد الذي يمشي على قدمين وقد كانت حركة الحوار الفكري هذه معالم بارزة في حياة الشعب السوداني حيث كانت كثير من أركان النقاش في الجامعات، وفي الطرقات والأماكن العامة؛ مدارس تعلم فيها الشعب أدب الحوار، وأدب الدعوة إلى الدين. وقد كانت أساليب الدعوة الفريدة حملات الدعوة الخاصة، حيث كان الجمهوريون يذهبون إلى لقاء المثقفين ورجال الدين والمفكرين فى مقابلات خاصة يتم فيها الحوار الفكري، وتعرض الدعوة إلى الرسالة الثانية من الإسلام وتقدم لهم فيها نسخاً من كتب الفكرة الجمهورية.

الملمح الرئيس لـ”الفكرة الجمهورية” أو بمعنى أدق لكل الأفكار التي نادى بها محمود محمد طه هو تقسيمه للدين الإسلامي إلى قسمين: القسم الأول أسماه بالإسلام المكي وتمثله السور المكية في القرآن الكريم وعددها 86 سورة نزلت على الرسول محمد بين عامي 610 و622، والقسم الثاني أسماه إسلام المدينة وتمثله السور المدنية في القرآن وعددها 28 سورة نزلت على الرسول بين عامي 622 و632.

ويؤمن طه بأن الإسلام الحقيقي هو الإسلام المكي الذي يعتبر أصل الدين والمليء بآيات الرحمة والتسامح وهو الرسالة الأولى للإسلام، في حين أن الإسلام المدني أو إسلام المدينة هو فرع في الدين نزل على الرسول ليحكم من خلاله في الزمن الذي كان يعيش فيه، وانتهى هذا الإسلام بانتهاء عصر الرسول وانتهت معه آيات الجهاد والسبي والميراث والتمييز بين الرجل والمرأة والحدود.

على ذلك، بنى محمود محمد طه كل أفكاره التي تعتمد في أساسها على ضرورة العودة إلى الإسلام المكي باعتباره الأصل في الإسلام، وتجاهل الإسلام المدني الذي لا يصلح للعصر الحالي مطلقاً. وفي ضوء هذا الفهم كان للمفكر السوداني البارز العديد من الأفكار غير التقليدية التي وصفها البعض بالشذوذ عن الدين، وكانت سبباً في الحكم بردّته أي خروجه عن الإسلام وهي التهمة التي أعدم بسببها.

 

الجمهوريّون والمذهبيَّة الإسلاميَّة الجديدة:

أنشأ الأستاذ محمود طه يوم الجمعة 26 أكتوبر 1945م، وثلة من رفاقه هم: أمين مصطفى التّني، وعبد القادر المرضي، ومنصور عبد الحميد، ومحمود المغربي، وإسماعيل محمد بخيت حبّة، حزباً سياسياً أسموه (الحزب الجمهوري)، حيث اقترح التسمية أمين مصطفى التّنى، في إشارة إلى مطالبتهم بقيام جمهورية سودانية مستقلة عن دولتي الحكم الثنائي.

 

الاسم: الحزب الجمهوري

الشعار: الحرية لنا ولسوانا المبدأ: تحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة والحرية الفردية المطلقة الوسيلة: قيام حكومة سودانية، جمهورية، ديمقراطية، حرة داخل حدود السودان الجغرافية القائمة إلى عام 1934 وذلك بالعمل المتصل.

 

أ) الوحدة القومية.

ب) ترقية الفرد من رجل وامراة.

ج) محاربة الخوف “د” الدعاية للسودان بالعمل الصادق والقول المقتصد.

و) توطيد العلاقات مع البلاد الاسلامية والبلاد المجاورة بوجه خاص ومع سائر بلاد المعمورة بوجه عام.

 

اختير الأستاذ محمود رئيساً للحزب، وعبد القادر المرضى سكرتيراً له، وتفرد الحزب الجمهوري عن بقية الأحزاب في المطالبة بالحكم الجمهوري، وفي المطالبة بالاستقلال التام، في الوقت الذي كانت فيه الحركة الوطنية السودانية، ممثلة في الحزبين الكبيرين، تنادي بالاتحاد مع مصر أو الاستقلال تحت التاج البريطاني. وأشار الجمهوريون إلى ذلك في بيان لهم صدر في 18 فبراير عام 1946م، بقولهم: “… أنتم تريدون إبقاء المصريين، وأنتم تريدون إبقاء الإنجليز، فإذا اجتمعت كلمتكم فإنما تجتمع على إبقاء المصريين والإنجليز معا…” .. وقد عبّر هذا الموقف التاريخي عن مصير السودان، أصدق تعبير، برؤية ثاقبة، وبصيرة نافذة صارت سمة الحركة الجمهورية التي أنشأها ورعاها الأستاذ محمود محمد طه.

 

لم يكن الحزب الجمهوري حزباً سياسياً فحسب، بل كان أشبه بالجماعة التي يتجمع فيها تلامذة محمود طه والمؤمنون بأفكاره التي كانوا يرونها ثورة في الفكر الإسلامي، وأطلقوا عليها اسم “الفكرة الجمهورية”.

واعتبرها “الجمهوريون” رؤية مختلفة تماماً للدين الإسلامي. أما خارج جماعتهم، فقد رأى البعض أنها تمثل تجديداً حقيقياً في الدين الإسلامي، فيما اعتبر آخرون أنها تشويه متعمد للإسلام، ومحاولة للتغيير فيه وفقاً لآراء طه ومعتقداته الشخصية.

 

نشأ الحزب الجمهورى على المصادمة المباشرة للاستعمار، دون أن تقعده الرهبة، أو يصرفه اليأس، فحفظ التاريخ للأستاذ محمود صوراً ناصعة من الإخلاص المتجرد من الخوف والطمع، في مواجهات مكشوفة مع الاستعمار، ومع الطائفية السياسية التي كانت تحرك الشعب لمصلحة قادتها. ورغم أن الحزب الوليد اتخذ من الإسلام مذهبيةً له، غير أنه لم يكن يملك، في تلك الفترة، من تفاصيل المذهبية ما يمكن أن يقدمه للشعب، فانصرف أفراده إلى ملء فراغ الحماس، متخذين من سياسة الاستعمار تجاه الجنوب، وقضايا مزارعي مشروع الجزيرة مواضيع للنضال وتحريك الشعب، فضرب رجال الحزب الجمهوري الأمثال في شجاعة المواجهة، حيث كان الحزب يطبع المنشورات المناهضة للاستعمار، ويحرص أفراده على توقيع أسمائهم عليها، وتوزيعها، في عمل فريد من أعمال المواجهة العلنية، إضافة إلى قيامهم بالخطابة في الأماكن العامة، حتى استشعرت السلطات الاستعمارية الخطر، فاعتقلت الأستاذ محمود في يونيو من عام 1946م وقدمته إلى المحاكمة، ووضعته أمام خيارين: السجن لمدة عام، أو إمضاء تعهد بعدم ممارسة العمل السياسي، فاختار السجن دون تردد. وكان بذلك أول سجين سياسي في تاريخ الحركة الوطنية السودانية. واصل الأستاذ محمود مقاومته للمستعمر بعدم تنفيذ أوامر السجن، في حين واصل رفاقه في الحزب مقاومتهم خارج السجن، فأضطُرت سلطات الاستعمار إلى إطلاق سراحه بعد خمسين يوماً. وقد أدى نبأ إطلاق سراحه، مثلما أدي نبأ سجنه، إلى تجاوب واسع من قطاعات الشعب، أظهرته برقيات التأييد التي انهمرت على الحزب من كافة محافظات السودان.

 

في السجن الثانى بدأت تتبلور و تتضح للأستاذ محمود تفاصيل المذهبية الإسلامية التي وقف حياته للدعوة إليها، حيث أخذ نفسه بالعبادة، وبخاصة الصيام الصمدي، والصلاة، فتهيأ لأداء المهمة التي أدرك أن الله إنما يعده لها. وبعد إتمامه مدة سجنه في العام 1948م خرج الأستاذ محمود إلى مدينة رفاعة حيث اعتكف مدة ثلاث سنوات في خلوة عن الناس، أتم ما كان قد بدأه في سجنه من تهيؤ لدعوته الإسلامية. كانت أيام خلوته واعتكافه عامرة بالإشراقات الروحية، والسمو النفسى، وقد بدا واضحاً أن الأستاذ محمود قد أقبل على موضوع كبير وخطير، وكان الحزب الجمهوري قد توقف نشاطه طوال فترة الاعتكاف.

خرج الأستاذ محمود من اعتكافه في أكتوبر 1951م ودعا الحزب الجمهوري إلى اجتماع عام عقد في 30 أكتوبر 1951م . في هذا الاجتماع طرح الأستاذ محمود المذهبية الإسلامية الجديدة، التي تقوم على الحرية الفردية المطلقة، والعدالة الاجتماعية الشاملة، ليتجه الحزب الجمهوري من ملء فراغ الحماس إلى ملء فراغ الفكر.

 

فكرة حركة البعث للدين الإسلامي:

في عام 1952م صدر كتاب (قل هذه سبيلي)، وبدأت بذلك حركة واسعة لتأليف الكتب التي تتولى شرح فكرة الدعوة الإسلامية الجديدة وتفصيل مذهبيتها. دعا الأستاذ محمود إلى الإسلام كمذهبية تبشّر بتحقيق إنسانية الإنسان، عن طريق تقديم المنهاج الذي يحقق السلام في كل نفس بشرية، حيث يُقدم الإسلام في مستواه العلمي كدعوة عالمية للسلام. وقد ظلت قضايا الفكر، والحرية، والاستقراء العلمي للحضارة الغربية ولواقع المسلمين قضايا مطروحة بإلحاح منذ أن تناولها الأستاذ محمود في المنشور الأول.

 

دعا الاستاذ محمود الى تقليد النبي محمد صلى الله عليه وسلم كمنهاج للسلوك الديني بهدف توحيد القوى المودعة في الإنسان، من قلب وعقل وجسد، والتى وزعها الخوف الموروث والمكتسب، ثم الى تطوير التشريع الاسلامي بالانتقال من الآيات المدنية التي قامت عليها بعض صور الشريعة، إلى الآيات المكية التى نسخت فى ذلك الوقت لعدم تهيؤ المجتمع لها، حيث الدعوة إلى الديمقراطية والاشتراكية والمساواة الاجتماعية، المدخرة فى أصول الدين، وقد بسط الأستاذ محمود فكرته فى آفاقها الدينية والسياسية والمعرفية بعلمٍ واسع، وحجةٍ ناصعة، وصبرٍ على سوء الفهم وسوء التخريج وسوء القصد الذى قوبلت به فكرته من معارضيها، حتى ذهب يقينه بفكرته وإخلاصه لها، والتزامه إيّاها فى إجمال حياته وتفصيلها، مثلا فريداً فى الدعاة والدعوات.

 

صدر كتاب (أسس دستور السودان) في ديسمبر 1955م ليشرح أسس الدستور الذي دعا له الجمهوريون، ثم توالى إصدار الكتب فصدر كتاب (الإسلام) في عام 1960م، ثم كتابا (رسالة الصلاة) و(طريق محمد) في عام 1966م. وتوجت حركة البعث الإسلامي هذه في يناير 1967م بكتاب (الرسالة الثانية من الإسلام) والذى ُيعد الكتاب الأم للفكرة “الجمهوريّة المستقلّة”.  ثم توالت بعد ذلك، الكتب التي تتولى تنزيل دقائق العلم بالدعوة إلى الإسلام في مستوى الرسالة الثانية، وذلك في كافة مناحي المعرفة، فصدر ما يفوق الثلاثين كتاباً، على مدى يمتد قرابة العشرين عاماً، هذا فضلا عن الكتيبات والمنشورات التي كانت تواكب مستجدات الأحداث برأي فكري وسياسي سمته الدقة، والإخلاص.

 

محمود طه صوفياً:

يعتبر الأستاذ طه الجمهوريين هم ورثة الصوفية، ذلك بأن الصوفية في حقيقتهم هم أنصار السنة، فقد أحيوا الدين وحفظوا عليه أصالته بعد أن انحط المسلمون عن الأوج الذي تركهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، عندما انتقل إلى الرفيق الأعلى، وانشغلوا بالدنيا عن الدين، يتضح ذلك في فكر الأستاذ طه عبر كتابه “طريق محمد” حيث يقول: “ان دولة القرآن قد أقبلت، وقد تهيأت البشرية لها بالمقدرة عليها وبالحاجة إليها، فليس عنها مندوحة.. وهذا يلقي على عاتق المسلمين المعاصرين واجبا ثقيلا، وهو واجب لن يحسنوا الاضطلاع به إلا إذا جعلوا محمدا، وحده إمامهم ووسيلتهم إلى الله”.

ويزيد إلى ذلك “لقد خدمت الطـرق الصوفية غرضا جليلًا، في نشر الدين الحق، ولقد ربت رجالًا أفذاذا، كانوا منارات هدى، ومثابات رشد للأمة، عبر تاريخها الطويل، في ارتفاعه وانخفاضه، عندهم التمست دينها وخلقها وتربيتها.. ولكن اليـوم!! فإن تحديات العصر أكبـر من الطرق وأكبـر من المشائيخ، وليس لها غير محمد. ونحن ندعو جميع أصحاب الطرق إلى العودة إلى طريقة الطرق ـ طريقة محمد ـ إذ بتقليد محمد تتوحد الأمة ويتجدد الدين”.

 

قبل محكمة الردة:

 اعتقل الأستاذ محمود محمد طه، وعشرات الجمهوريين في يونيو من العام 1983، أي قبل ثلاثة أشهر من صدور قوانين سبتمبر 1983. وكان سبب الإعتقال كتاب أصدره الإخوان الجمهوريون انتقدوا فيه النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك، اللواء عمر محمد الطيب، لكونه قد استجلب إلى مسجده المسمى “مسجد التقوى” في ضاحية كوبر بالخرطوم بحري، واعظاً مصرياً اسمه محمد نجيب المطيعي، كان يعمل في جامعة أمدرمان الإسلامية. وقد شرع ذلك الواعظ في تأليب وتحريض جمهور المصلين ضد الجمهوريين، من على منبر ذلك المسجد. ولقد أشار الأستاذ محمود في مذكرة بعث بها  من معتقله إلى الجمهوريين المعتقلين بسجن كوبر، أنه يرى أن اللواء عمر محمد الطيب ضالع في مؤامرة ضد الجمهوريين فيها أيد أجنبية، يدل عليها استخدامه لذلك الواعظ الذي أخذ في بث الفتنة الدينية من “مسجد التقوى” التابع له، ومن التلفزيون القومي، ثم باعتقاله للجمهوريين. عموماً، أخذت حلقات المخطط المبيت ضد الجمهوريين، تتجلى على أرض الواقع، منذ منتصف العام 1983م، أي قبل ثلاثة أشهر من صدور قوانين سبتمبر 1983م، واستمرت تلك الحلقات في الظهور المتتابع، حتى محاكمة الأستاذ محمود في يناير 1985م.

 

مشهد الإعدام:

عند الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة الثامن عشر من يناير 1985م،  صعد الأستاذ محمود درجات السلم إلى المشنقة تحت سمع وبصر الآلاف من الناس، وعندما رفع الغطاء الذي كان على رأسه قبيل التنفيذ، أسفر وجهه عن ابتسامة وضيئة لفتت الأنظار، فانفتحت بهذا الموقف المهيب، وبهذه الابتسامة، دورة جديدة من دورات انتصار الإنسانية على الخوف من الموت. فى السادس من أبريل 1985م سقطت سلطة مايو أمام انتفاضة الشعب السوداني، وفي 18 نوفمبر 1986م أصدرت المحكمة العليا السودانية حكمها بابطال أحكام المحكمة، ومحكمة الاستئناف بحق الاستاذ محمود. وقد أعلنت منظمة حقوق الإنسان فيما بعد يوم 18 يناير يوما لحقوق الإنسان العربي.

بالنسبة لكثير من السودانيين الذين هللوا لإعدامه في ذلك اليوم، فإنّ طه قد اقترف أسوأ جريمة يمكن أن ترتكب. لقد أدين بتهمة الردّة عن الإسلام. وهي تهمة نفاها طه، الذي أصرّ حتى النهاية، أنه ليس مهرطقاً، أو مرتدّاً عن الإسلام، وإنما مصلح دينيّ، ومؤمن وقف في وجه التطبيق الوحشيّ للشريعة الإسلامية، “قانون المسلمين المقدّس”، إنّ الألم لإعدام “طه” كان مضاعفا، فالرّجل أُعدم مرّتين؛ مرّة أولى عندما أعلن “رفاقه الأربعة” الّذين حكم عليهم معه بالإعدام “توبتهم” أمام المحكمة واصفين إيّاه بالمرتدّ الّذي ضلّلهم وأخرجهم عن الملّة. ومرّة ثانية عندما وضع الجلاّدان حبل المشنقة حول رقبته.

 رسالة محمود محمد طه:

تبنى طه طريقاً وسطيا، مقترحاً أن بإمكان الإسلام استيعاب الأفكار القومية العلمانية. ولكن من أجل الوصول إلى تلك المرحلة، لابد من أن تكون الشريعة مرنة بما يكفي لممارسة الاجتهاد، وأن تتفاعل مع التغيير والعالم الحديث، ولتحقيق ذلك؛ على المسلمين المثقفين العودة إلى المصادر الأصلية، القرآن والحديث، ويقول إن الآيات المدنية أكثر تحديداً على عكس الآيات المكية التي هي بمثابة دعوة عامة للبشرية لدخول الإسلام، المتمثل بـ (الرسالة الثانية للإسلام)، ولذا فإن الآيات المدنية يجب أن تخضع للآيات المكية، وبهذه الطريقة يمكن إعادة تأليف القانون الإسلامي من البداية بدلاً من إثقاله بأحكام العصور الوسطى.

 

ذهب محمود طه أبعد مما ذهب إليه العديد من المصلحين، بمناشدة ما أسماه (الرسالة الثانية للإسلام) فنادى بالتخلي عن المعيار القياسي للنسخ، والعدول عن النسخ، وكانت حجته أن النسخ لاقى تأييداً ضعيفاً من القرآن، فضلاً عن ذلك قدّم الأستاذ طه صورة تفصيلية لعلم العقيدة وعلم الكون، في محاولة لدمج مفاهيمه عن الإسلام المحافظ بجوانبه الغامضة، وحاول جاهداً التوفيق بين الإسلام والعلم الحديث، وعلى المستوى السياسي كان يسهم في تقديم مقترحات مفصّلة لتنظيم شؤون الحكم.

 

كان محمود طه مؤيداً قوياً للحرية الفردية والضمير الإنساني. وكان مؤمناً بأن للبشر أن ينتموا لتقاليدهم الدينية، أو ينأوا بأنفسهم عن ذلك وفق ما تمليه عليهم ضمائرهم. وكان ضد التحرك صوب الطائفية الدينية، الذي كان يحصل في بلاده، ويؤمن بأن لأتباع كل الأديان الحق في ممارسة شعائرهم بحريّة، كما أن لهم حريّة تغيير معتقداتهم. واقتصادياً اعتنق طه شكلاً من الاشتراكية القائمة على المشاركة في المشاريع التعاونية بدلاً من سيطرة الحكومة المركزيّة.

 

لم يكن الأستاذ محمود، طيلة نشاطه الفكري، والسياسي، منذ منتصف الأربعينات، يطلب سلطةً، أو جاهاً، كان زاهداً في السلطة الفوقية، زهداً مطلقاً، فقد كان يريد تغييراً جذرياً، ينطلق من حيث يقف عامة الناس، لا من حيث تقف الصفوة! وكان يعرف أن ذلك يقتضي زمناً، ولذلك، فقد كان يسابق الزمن ليضع البذرة في الحقل البور، تلك البذرة التي كان ينتظر لها أن تثمر التغيير الجذري، في نهاية المطاف. فهو قد ألقى البذرة، وكان فقط، يود أن يتأكد أن جذوراً من تلك البذرة قد بدأت تمتد إلى داخل الأرض. لم يكن مشغولا متى ستشق تلك البذرة التربة، وتظهر على سطح الأرض، لتنتج الثمر، كان الأستاذ محمود طه حامل مشعلاً، ولم يكن طالب سلطة، وشتان بين الإثنين.

 

ما من شك أن تنفيذ حكم إعدام في فرد، بسبب فكره، في أواخر القرن العشرين، هو في حد ذاته حادثة غريبة، كان ينبغي أن تجد على الأقل من الكتاب والمفكرين، من الانتباه قدراً أكبر مما لقيته.

على خطى “سارقي النّار” في الفكر الإسلامي؛ “قاسم أمين” ،علي عبد الرّازق و”الطّاهر الحدّاد” تجرّأ قلم “محمود محمّد طه” على استنطاق الصمت وإنارة السّبيل أمام جيل تائق للحريّة والانعتاق. إلا أن المؤسسات التقليدية  القابضة على أجهزة التوعية ومساراتها في وطننا العربي، لا تسمح لمثل أفكار الأستاذ محمود طه بالذيوع. غير أن الوقت لم يفت بعد، إذ لا بد أن تأتي اللحظة، التي يجد الناس فيها منصرفاً عن الرجوع إلى تلك الحادثة الشنيعة.

 

(( إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة،  هو ذلك الرجل الذي يفكّر كما يريد، ويقول كما يفكّر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيراً، وبراً، واخلاصاً، وسلاماً، مع الناس.. ))

 الأستاذ محمود محمد طه – كتاب (لا إله إلا الله).

 

 الهوامش:

  • “قل هذا سبيلي” صدر سنة 1952 وفيه تطرّق لمشكلات الدّيمقراطيّة والتّعليم والمرأة. ـ
  • ”الدستور الإسلامي؟ نعم …ولا” أصدره سنة 1968 وأقام فيه الفصل بين الشّريعة والدّين وتحدّث فيه عن الدّيمقراطيّة والاشتراكية والإسلام.
  • “الرسالة الثانية في الإسلام” صدر سنة 1969 وقد تناول فيه قضايا فكريّة هامّة مثل الجبر والاختيار في القرآن وأنّ التفاضل بين المرأة والرّجل، والحجاب، وتعدّد الزوجات ليست أصولا في الإسلام.
  • ـ”تطوير شريعة الأحوال الشّخصيّة” صدر سنة 1971 وجاء في إهدائه ” إلى أكبر من أُستضعف في الأرض، ولا يزال..إلى النّساء…” وفي مؤلّفه هذا حاول طه إنصاف المرأة والكشف عن العادات والتقاليد البالية الّتي حالت دون انعتاقها.
  • ـ”الماركسيّة في الميزان” تمّ إصداره سنة 1973 وقدّم فيه قراءة نقديّة للفكر الماركسي والتجارب الشيوعيّة.

جديدنا