في أفق بناء مجتمع مدني مؤثِّر في نظامنا التربوي والتعليمي

image_pdf

في ظلِّ الأزمة التي تتخبَّط فيها منظومات التربية والتكوين في عددٍ من الأقطار العربيَّة، أضحى إشراك مؤسّسات المجتمع المدني في هذه البلدان خياراً لا مندوحة عنه من أجل تجاوز المثبّطات التي تعيق إصلاح هذه المنظومات التربويَّة، واستشراف المستقبل بعزم أكيد، في أفق بناء بيئة علميَّة سليمة، وضمان الجودة، والنوعيَّة لمنظوماتنا التعليميَّة والتربويَّة.

فالحديث عن التنمية المستدامة، ومجتمع العلم والمعرفة بعيداً عن إشراك مؤسّسات المجتمع المدني، سيكون مجرَّد ترف فكري، إن لم نقل مضيعة للوقت والجهد. لقد أثبتت عدد من التجارب الرائدة عالميًّا في مجال التربية والتكوين، أن هيئات المجتمع المدني تلعب دورا مهمّا في صناعة وتوجيه السياسة العامَّة في المجال التربوي، وتؤدّي دورا رئيسا ومكمّلا في هذا المجال، ولا أدلّ على ذلك الدور الذي تلعبه بعض الجمعيّات الشبابيّة النشيطة المنتشرة ببلداننا العربيَّة في تنمية الوعي بثقافة التسامح الديني والسياسي والتعدّديَّة الثقافيَّة، والذي عجزت بعض المؤسَّسات التعليميَّة الرسميَّة عن القيام به لافتقادها لمناهج واضحة في هذا المضمار، ولعدم إدراكها لانتظارات المتعلّمين، وانشغالاتهم المجتمعيَّة.

إن النقاش الدائر اليوم في عددٍ من بلداننا العربيَّة حول معوقات إصلاح منظومة التربية والتعليم، وسبل تجاوزها، يجب أن ينبثق من مسألة جوهريَّة هي كون التربية والتعليم فضاء لالتقاء فاعلين مختلفين، ومجموعة من الهيئات والمنظّمات بدءا من الأسرة والمدرسة، مرورا بالشارع والأصدقاء والإعلام، وصولا إلى المجتمع المدني. فكلما كان التنسيق والتعاون، وتضافر الجهود، والرؤى بين مختلف هذه الأطراف والفاعلين التربويّين والمتدخّلين الميدانيّين في العمليَّة التعليميَّة التعلّميَّة، كانت جهود الإصلاح هادفة، وحقَّقت العمليَّة التربويَّة أهدافها الحقيقيَّة والمتوخَّاة، بدءا من تحسين مدخلات التربية ومناهجها، ووصولا إلى جودة تعلّماتها ومخرجاتها المعرفيَّة.

لذا يتعيَّن اليوم ونحن ننشد إصلاح قطاعات التعليم في منطقتنا العربيَّة، أن نستوعب أنَّ مؤسَّسات المجتمع المدني تلعبُ دورا تنمويّاً مهمّاً في مختلف مجالات الحياة؛ وعلى رأسها المجال التربوي والتنموي، وتُعدُّ شريكاً أساسيّاً في التنمية وتحقيق الديمقراطيَّة، واقتراح البدائل المجتمعيَّة، وتحسين المكتسبات والتعلّمات لدى ناشئتنا، فضلاً عن كونها مشتلا حقيقيّا لتخريج الطاقات والقيادات الوطنيَّة الواعدة، في أفق تعزيز منظومة تربويَّة وتعليميَّة قوامها الإنصاف وتكافؤ الفرص، وترسيخ الجودة والعمل على الاندماج الفردي والارتقاء المجتمعي والريادة الناجعة.

فالحاجة ماسَّة في وقتنا الراهن والنقاش يستجدُّ من جديد حول أزمة التربية والتكوين بوطننا العربي، لاعتماد مقاربة تعاقديَّة بين المجتمع المدني العربي الذي اكتسب شرعيَّة مؤسّساتيّة عبر تنظيماته الجمعويَّة، والنقابيَّة، والشبابيَّة، الآخذة في الانتشار، والتي لا يمكن الاستهانة بها باعتبارها إحدى آليَّات الوساطة الاجتماعيَّة، وبين الدولة باعتبارها الجهة المشرفة، والمنفِّذة للسياسات العموميَّة في مجال التعليم. هذه المقاربة التعاقديَّة يجب أن تقوم على التعاون وتبادل الخدمات، والتعبئة الداعمة للمدرسة العموميَّة، وتثمين مكتسبات النظام التربوي وتطويره وحسن تدبيره، وابتكار حلول خلّاقة للاختلالات والمشكلات المستعصية التي تواجه أنظمتنا التعليميَّة الرسميَّة.

رهان النهوض بالتربية و التكوين يجب أن ينصبَّ على مؤسّسات المجتمع المدني بفضل القوَّة التي أصبحت تتوفَّر عليها، من أجل بناء بيئة علميَّة تعليميَّة تعلّميَّة في المنطقة العربيَّة، من خلال العمل للقضاء على مختلف التفاوتات الموجودة، لا سيما منها المرتبطة بالنوع الاجتماعي، عبر تعبئة محيط المدرسة من أجل تشجيع تمدرس الفتاة، والإسهام في تأمين حقّ الأشخاص في وضعيَّة إعاقة، أو في وضعيّةٍ صعبة في التمدرس، والتصدّي لكل أنواع الهدر المدرسي، ودفع الدولة إلى وضع برامج تعليميَّة هادفة، من حيث المضامين والكفايات المتوخَّاة من المناهج التعليميَّة.

إنَّ مؤسَّسات المجتمع المدني مدعوّة قبل أي وقت مضى للعمل لتقديم برامجها سواء المتعلّقة منها بمحو الأمّيَّة، أو المتَّصلة بالتنمية البشريَّة في انسجامٍ تام مع برامج ومستويات التعليم العامّ والمهني الذي تقدّمه المدرسة ومراكز التكوين المهني؛ في عالمنا العربي، كما أنَّها مدعوّة أيضا إلى بلورة رؤى واضحة من أجل تعزيز الاندماج، والانفتاح السوسيو-ثقافي للمتعلّمين على محيطهم، وترسيخ مجتمع المواطنة والديمقراطيَّة والمساواة؛ والاسهام في الانخراط الفاعل في الاقتصاد ومجتمع المعرفة، دون نسيان أهمّيّة انخراط المجتمع المدني من أجل اقتراح تيمات، ومفاهيم جديدة في المناهج التعليميَّة، من قبيل التربية على حقوق الإنسان، والتربية البيئيَّة ومعالجة السلوكيَّات الخطرة، التي يتعرَّض لها الشباب كالإدمان على المخدّرات، والإرهاب والتطرُّف العنيف.

اضطلاع المجتمع المدني بأدواره التربويّة والتعليميَّة لن يتأتَّى دون تمكينه من الموارد الماليَّة، والبشريّة الضروريَّة التي تتيح له الاسهام في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسَّسات المنتخبة وتقييمها، إلى جانب إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيِّين، في إعداد السياسات العموميَّة، وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها، خصوصًا المتّصلة بالمجال التربوي والتعليمي، فضلًا عن تعزيز الدور الرقابي لمؤسّسات المجتمع المدني من خلال تقنين الحقّ في تقديم العرائض، والملتمسات التشريعيَّة للجهات المعنيَّة.

وفي خضم تنامي نزعات التطرّف، وخطاب الكراهية، أضحى من اللازم على الدولة تشجيع التنظيمات الجمعويَّة التي تشتغل على تأطير المواطنين على قيم الحرّيَّة، وقبول الآخر، والممارسة الديمقراطيَّة، وحقوق الإنسان والمواطنة، الخ… وذلك بتنظيم اللقاءات والدورات التكوينيَّة لأطرها، وقياداتها الشابَّة، لتنمية قدراتهم الذاتيَّة، والتدبيريَّة، وترسيخ الفكر التشاركي والتعدّدي لديهم.

ختاما، يمكن القول إن ربح رهان مدرسة عموميَّة تتّسم بالجودة، والفعاليَّة، لا يمكن أن يتأتَّى إلا من خلال  إشراك المجتمع المدني بمختلف أطيافه، للإسهام الفعَّال في ورش الإصلاح التربوي، والانتقال من مرحلة تشخيص الأوضاع إلى مرحلة العمل، وتنزيل أحلام إصلاح منظومتنا التربويَّة والتعليميَّة التي تراودنا جميعا على أرض الواقع، ليس فقط  عبر تأهيل الكوادر، والموارد البشريَّة اللازمة لمباشرة الإصلاح، فهو أمر ضروري دون شك، لكن أيضا من خلال صياغة الفكر، وتشكيل الثقافة المجتمعيَّة، وحشد الوعي الجمعي، بشكل يصبح فيه إصلاح، وتطوير منظومة التربية والتكوين رهان مشروع مجتمعي، ومسؤوليَّة مشتركة تتحمّلها جميع مكونات المجتمع أفرادا وجماعات ومؤسّسات، والتي يعوّل عليها لتحقيق الجودة المنشودة، والمرامي المنتظرة من نظامنا التعليمي.

جديدنا