إصلاح التعليم أم التربية؟

image_pdf

 


نحن اليوم نعيش على إيقاع عالم المعلومات والاتّصال، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا التطوّر على الصعيد العلمي والتكنولوجي سيكون له أثر في تغيير النظام التعليمي. ويجدر بنا النّظر في نجاعة الوسائط التعليميّة وتكنولوجيا الاتّصال وحدودِ ذلك لا من جهة علاقتها بالوضع العالمي والموارد الماليَّة، بل أيضا من جهة آثارها في رسم ملامح الإنسان على الصعيد التربوي وهو ما يعني أن أزمة التعليم في المجتمعات العربيّة هي في جوهرها أزمة تربية وقيم. وقد تُمثّل الثورة المعلوماتيَّة وتكنولوجيا الاتّصال السبيلَ إلى الارتقاء بالتعليم إلى معايير النجاعة أو الجودة العالية، ولكن لا تضمن ضرورة الارتقاء بالإنسان إلى مقام تربوي يزخر بالقيم؛ إذ “لا يستطيع الإنسان أن يصير إنسانًا إلا بالتربية”
، ولذا كان من الأولى اليوم المبادرة إلى إصلاح المنظومات التربويّة في الوطن العربي لا من جهة العلاقة بالوسائط التكنولوجيّة والمناهج التعليميّة، بل أيضا القيم التربويَّة التي نريد تأصيلها في الناشئة. هاهنا نتساءل أيّ معنى للنجاعة في التعليم اليوم؟ وأيّ قيم نصبو إلى تحقيقها؟

  1. مفهوم النجاعة وحدودها:

أصبحنا اليوم، كما يَجري في عالم المصانع والتكنولوجيا، نَستعملُ عبارات مثل النجاعة (Efficacité) في التعليم. وفي هذا السياق يستدعي وضع منظومة جديدة في التعليم والتربية مواكبة تكنولوجيّات المعلومات والاتّصال، ممّا يُتيح استخدام المكتبات الإلكترونيّة والمخابر الافتراضيّة وتبادل المعلومات وإحداث نقلة من التعليم في المدرسة إلى التعليم عن بُعد. وتُساعد تقنيات الملتيميديا على سبيل المثال على إثراء فُرصِ التكوين المستمرّ وتجويدِ طرقِ التعلّمِ وتحسينِ إدارة النظم التربويّة،لا سيما أنّ استخدام المعلوماتيّة وتكنولوجيا الاتّصال يُعدّ من المعايير الدوليّة لقياس درجةِ تقدّمِ الشعوب والعكس بالعكس؛ ذلك أنّ الفَجوات الرقميّة تؤدّي إلى فجوات تَنمويّة تُسَبّب في انحدار الحضارة.

إنّ التذكير بضرورة مواكبة الثورة المعلوماتيّة وتكنولوجيا الاتّصال وقيمتِها، أمر لا يحتاج إلى دليل. ولكنّ المسألة لا تتعلّق في تقديرنا بالبحث عن مُسوّغات اعتمادِ الوسائل المعاصرة من أجل تأمين تعليم جيّد للجميع يتَّسم بالنجاعة والجدوى، وإنّما بكيفيّة استخدامها على نحو ما يَرتقي بالمُتعلّم إلى مقام المعرفة والتفكير والإنتاج والعيش وفق قيمِنا وآدابِنا الاجتماعيّة، لأننا بفضل التكنولوجيا المعلوماتيّة والاتّصال نمتلك المعلومات ولكنّنا لا نُفكّر، ونحن نَعملُ ولا نُنتج، ونَعيش ولا نُدرك معنى الحياة وقيمَتَها. فأيُّ معنى للجودة في التعليم إن لم نَتعلّم كيف نُفكّر؟ وكيف نُنتجُ ؟ وكيف نحيا؟

ارتبط إصلاحُ التعليم في الوطن العربي، بأهداف البلدان المُهيمِنَة التي خَطّطت لخَوصصة قطاعِ التعليمِ في إطار الإستراتيجيّات العالميّة المعروفة بالعَولمة. وفي هذا السياق الدولي تتَحدّث أيضا منظّمة التجارة العالميّة ومؤسّسة صندوق النقد الدولي وغيرهما عن التعليم وفق منطق السوق؛ النجاعة والكُلفة والجودة والمردوديّة وكلّ ما يتلاءَم مع المنطق اللبيرالي المُعَولَم. فكلُّ شيء حسب رأي بودريار تَعولَم: السوق والإعلام والتربية والثقافة … والنتيجة أنَّنَا نموتُ لانعدام أيّةِ خصوصية جراء فرض برامج ومُخطّطات وتوصيات تلك المؤسّسات الماليّة الاقتصاديّة التي تتلحّف بغطاء مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة. والمدرسة، على خلاف هذا، فضاء رمزي سيادي بامتياز وهي  فضاء التربية وخلق القيمة.  

ولا ريب أنه بفضل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتّصال أصبح المُعلّم والمُتعلِّم على حدٍّ سواء، قادرا على النفاذ إلى المعلومة، وهذا ما يساعد على البحث وتطوير الدروس ومحتوياتها. إلاّ أنّ الأهمَّ أولا وبالذات أن نَغرِسَ في الناشئة حبَّ المعرفة والرغبةَ في القراءة والكتابة وأن ندفعَهم إلى التفكير تفكيرًا خاصًّا، يقول انشتاين: “من المهمّ، من أجل تحقيق تربية ممتازة، تنمية الحسّ النقدي في ذكاء الفرد الشاب”…ذلك أنّ التعليم الناجع لا يقتصر على استعمال الوسائط التكنولوجيَّة وتعميمِ استعمالها في المؤسّسات التربويَّة فقط، بل أيضا تدريب الإنسان على التفكير والبرهنة والنقد …وهي عمليات ترتقي بالناشئة إلى مقام التفكير والإبداع. غير انه لا يمكن حصر التعليم في جملة من الأهداف المعرفيّة الخالصة إذ الأجدى – لمن رام إصلاح التعليم –  طرح الأسئلة التالية: ما هي مبادئُ المنظومة التربويَّة وأهدافها؟ وما هي رسالةُ المدرسة؟ وما ملامح المتخرّج؟ وهل يَشترط أيُّ مشروع تربويّ الاحتكامَ، على نحو قطعي، إلى الميثاق العالمي لحقوق الإنسان؟


II .التعليم في جوهره تربية

إنّ نجاعةَ أيّةِ منظومة تربويَّة، لا تَستوفِي مَعَانيها إلا لحظةَ معالجةِ مبادئها وأهدافها. ولا بدّ في تقديرنا من التفاعل أو الاستئناس بالمعاهدات الدوليّة والإقليميّة المتعلّقة بحقوق الإنسان الكافلة للحقّ في التعليم. وأنه لا غنى عنها في إصلاح هذا القطاع على اعتبار ما تنشده من حقوقيّة كونيّة.

غير أنّ الاعتقاد في كونيّة حقوق الإنسان يتضمّنُ أن لا واحدة من المجتمعات الأخرى سواء في الماضي أو المستقبل تَحملُ قيمًا يمكن أن تكون مخالفة للعقلانيَّة وللحداثة وللمواطنة، وباختصار لكلّ القيم ذات الصلة بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان. ومن تبعات ذلك أنه لا يمكن لأيّ مجتمع أن يُصلح منظومتَه التربويَّة ويطوّرَها إلا باستبعاد كل ما هو خصوصي مثل المعتقدات أو القيم الدينيّة واعتبارها من الأمور الشخصيَّة نظرا لكون مبادئ حقوق الإنسان مبادئ كونيَّة وشاملة وعدم قابلة للتجزئة. في حين ساهمت العديد من الشعوب في بلورة الحداثة والعقلانيّة والحرّيّة وأنّه لا يمكن أن يكون إصلاح التعليم والتربية رهين مبادئ حقوق الإنسان فقط، بل لا بدّ أيضًا من الالتزام بقيمنا وبخصوصيّاتنا الثقافيّة المشتركة؛ كي يكون المتعلّم حقيقة عارفا بميزاته الثقافيّة، ومُعتزًّا بقيمه وفاعلا في الثقافة الكونيّةِ. فالتربية كما نريدها مشروع قيمي تلتقي ضمنَه جميع المواثيق والمعاهدات الحقوقيّة الدوليّة والنصوص الدينيّة والخصوصيّات الثقافيّة التي تُوحّدنا ولا تُفرّقنا. وإننا نحتاج فعلا إلى خلق مواطن متعلّم متمسِّك بهويّته العربيّة الإسلاميّة وبما هو نيّر في تراثه ومُنفتح على ما أنجزته الإنسانيّة في مجال المعرفة والتكنولوجيا.

ولعل من أهمّ مظاهر أزمة التعليم اليوم حصر التربية في الجانب التعليميّ واختزال الجانب القيمي– الثّقافيّ في مبادئ حقوق الإنسان فقط، ولكن إذا ما جرّدنا التعليم من عمقه التربوي الخصوصي فقَد قيمتَه وأثرَه في بناء المجتمع على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. فباتت المدرسة خاضعة لمحيطها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وهذا ما يفسّر في جانب ما أن أزمة المدرسة في عمقها هي أزمة تربية.
وعلى عكس هذا، نريد اليوم أن تكون المدرسة فضاءً قيميًّا لتغيير السلوك والمعاملات اليوميّة وهو ما يجعلها بالفعل أمانة ورسالة مُحمَّلة بقيمٍ أخلاقيّة. وأخيرا، ينبغي أن تضطلع المدرسة مستقبلا بتأصيل قيم لدى الناشئة وأُولاها المعرفة بما هي قيمة، والعمل بما هو قيمة، وأن نتعلَّم كيف نحيا وفق قيمنا التي لا تستبعد اختيارات الغير وحرّيّته الشخصيَّة، وإنّما تتفاعل معها على نحو يضمن التواصل بين جميع الأفراد والشعوب.

 

 

جديدنا