أثر التفكير النقديّ في بناء الثقافة الإسلاميَّة

image_pdf

*نوال الراضي
إن ممارسة النقد من أجل التحرُّر ممَّا هو ميِّت في الكيان العقليّ والإرث الثقافيّ ضرورة إنسانيَّة للمقاربة بين النوع البشريّ، لذا وجب الانتقال بالنقد من إطار الشعارات إلى تفعيل الممارسات الفكريَّة.

وهذا ما يدعو إلى طرح التساؤل: هل هناك تضادّ بين الانتقاد والاعتقاد، وما مساحة التفكير النقديّ في منهاج الأمَّة الإسلاميَّة، وكيف يمكن للعقل أن يكون داعمًا للإيمان ومكمِّلًا له؟

كرَّمَ الله جَلَّ جَلالُهُ الإنسان بالعديد من العطايا، لعلّ أهمّها نعمة التفكير، والشاهد قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).

أي ميَّزهُ بالعقل عن سائر المخلوقات فهو الكائن الوحيد العاقل، والعقل مفهوم مجرَّد لا وجود له ولا يوجد إلا بالاكتساب (1).

والشاهد قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وبالرغم من أن العديد من الآيات القرآنيَّة تحضُّ المؤمنين على التدبُّر والتفكُّر والتأمُّل، وبالإضافة إلى المكاسب المهمَّة التي تحقَّقت في العقد الماضي، إلَّا أنَّ الثقافة العلميَّة الحقَّة منعدمة في العالم الإسلاميّ، علمًا أنَّها شرط رئيس لازم ولا محيد عنه؛ لأنَّ تأثيره مستدام على المجتمع، إلَّا أنَّه لا يتمّ التركيز عليه بما فيه الكفاية ولا يتمّ إيلاء الاهتمام لدور التفكير النقديّ، رغم الإشادة  بالعصر الذهبيّ السابق للعلوم الإسلاميَّة؛ الذي تحقق بفضل العقل، كما بيَّنَ ذلك العلماء والفلاسفة المسلمين مثل الرازي وابن رشد وغيرهما الذين ألحدوا في غياب التفكير النقديّ والاحتكام إلى العقل والدلائل، كما يلاحظ أنه لا شيء ذا قيمة تذكر يمكن تحقيقه، في مجال المعرفة والعلوم رغم ما تملكه من قدرة على إحداث تغييرات هائلة وما تمتلكه من تراث (2) وتقاليد توارثتهما الأمَّة على مدى قرون (3).

وهذا يعتمد على المحاجَّة عمَّا عداها من التوسُّل لأنَّها متعلِّقة بالاعتقاد؛ وهو نوع من التوسُّل يأتي أحيانًا في تبرير المعتقدات الدينيَّة في بعض النقاشات، فهو يظهر حينما يستدلّ أحدهم على صحَّة معتقداته من واقع أنَّ طبيعة هذه المعتقدات إيمانيَّة وليس ثمَّة إشكال في ذلك تفسيرًا لمحاولة إفهام الآخرين، طبيعة الاعتقاد الإيمانيّ في هذه المعتقدات.

لكن الإشكال يأتي حينما يظهر هذا النوع من التوسُّل كتبرير لمحاولة التدليل على صحَّة هذا المعتقد في محلِّ نزاع، فهنا كما الحدس والفطرة، (الشخص المعتقد لا يترك مجالًا للحجاج لأنَّهُ توسَّل بما لا يمكن تقييمه) (4).

إنَّ تحديد المسلَّمات التي تستند إليها الأفكار والمعتقدات والقيم والسلوك سواء التي تسلم بها الأنا أو الآخر هي محور عملية التفكير النقديّ حيث يبدأ المفكِّرون النقديُّون حالما تحدَّد هذه المسلمات باختبار مدى دقتها وصلاحيتها، إنهم ينفتحون على نبذ المسلَّمات القديمة وطرحها جانبًا عندما تكون غير مناسبة.

وهم في تحدِّيهم واختبارهم لهذه المسلَّمات، يبحثون عن افتراضات جديدة تنسجم مع تجاربهم عن العالم.

وهذا لا يتمُّ إلا بوجود معيار للنقد، وإعمال العقل والمنطق والاعتراض على المسلَّمات، وهو لا يتمُّ في فراغ، وإنَّما يتمّ في بيئة لها مطالب وحدود وإمكانات وحدود ثقافيَّة وزمانيَّة لا بد أن تتم في إطارها عملية النقد هذه.

ثم يأتي تحليل البدائل واكتشافها الذي يرتكز فيه التفكير النقديّ على المقدرة على تخيُّل واكتشاف بدائل للطرق الحاليَّة في التفكير ومن ثمَّ في الحياة.

ونظرًا لأنَّ المفكِّرين النقديِّين يعرفون أنَّ الأفكار والمعتقدات ومن ثمَّ السلوكات التي تصدر عنهم مبنيَّة بشكلٍ أساسيّ على المسلَّمات والافتراضات التي يؤمنون بها، وأنَّها لا تتَّفق مع مطالبهم ومقدراتهم، فإنهم يلجؤون بشكل مستمرّ إلى طرق جديدة، واختبار بدائل متعدِّدة وتخيُّر بدائل أخرى أكثر مناسبة لحياتهم.

وهذا ما يحيل إلى الشكِّ التأمّليّ الذي يبدأ فيه المفكِّرون النقديُّون من مسلَّمة أساسيَّة مؤدَّاها أنَّ الممارسات السائدة حاليًّا والموجودة هكذا من مدَّة، لا يعني ذلك أنَّها الأكثر ملاءمة لكلِّ الأزمنة، ومن ثمَّ فلا بدّ من التأكُّد من مدى انسجامها مع المعطيات المحيطة حاليًّا، ولذلك عندما يتمُّ تخيُّل البدائل وإدراك الوجود الدائم لبدائل لتنظيم العقائد والعادات السلوكيَّة والبنى الاجتماعيَّة المفترض رسوخها، فإنَّه يتمّ الشكّ فيما يسمَّى الحقيقة المطلقة، وهنا يصطدم المفكِّرون النقديُّون باستمرار مع من يزعمون أنهم دائمًا لديهم إجابات جاهزة لجميع مشكلات الحياة، فالشكّ التأمُّليّ يصبح ملازمًا لعمليَّة تنمية التفكير النقديّ بلا نهاية (5).

إنَّ المكانة التي يحتلّها الدين في المجتمعات الإسلاميَّة والعربيَّة المعاصرة هي من الهول والضخامة إلى درجة أنَّهُ يمكن عدّها المسألة الأولى والأساسيَّة التي ينبغي على المثقَّف أن يهتمَّ بها، ومن الواضح لكلِّ ذي عينين أنَّ تأثير الإسلام على كلِّ أصعدة الوجود، الفرديّ والجماعيّ كان دائمًا ثابتًا عميقًا مستمرًّا حتَّى هذا اليوم، ومن الواضح أكثر أنَّ الظاهرة الدينيَّة عامَّة تظلّ حتَّى الآن شيئًا لا مفكّرًا فيه داخل الفكر العربيّ والإسلاميّ، والأشدّ خطورة من ذلك كلّه، هو أنَّ المسائل الكبرى الثيولوجيَّة أو اللاهوتيَّة التي نوقشت بين القرنيين الثاني والرابع؛أي الثامن والعاشر الميلاديّين قد بقيت على حالها كما تركها الأشعري بالنسبة للسنّيّين ثمّ ابن بويه وأبو جعفر الطوسي بالنسبة للشيعيّين.

ولم يستطع الفكر الإصلاحيّ السلفيّ أن ينشط هذه المسائل الكبرى بكلِّ أبعادها، وأمَّا الفكر الشيعيّ الذي استعاده الخمينيّ وأتباعه مؤخَّرًا وطبَّقوه على المجال السياسيّ، فإنَّهُ يزيد من حدَّة القطيعة مع التراث الكلاسيكيّ المبدع، ويزيد من مساحة المستحيل التفكير فيه داخل الفكر الإسلاميّ أكثر ممَّا يحبِّذ الشروع باستكشافات جديدة وتأويلات محرّرة وتحرّريَّة، تضاف  إلى ذلك كلّ المشكلات التي طمست أو رميت في ساحة المستحيل التفكير فيه من قبل الإسلام الرسميّ من الأمويين، والمقصود بذلك مسألة تاريخ النصّ القرآنيّ وتشكّله، ثمّ الشروط التاريخيَّة والثقافيَّة لتشكُّل الشريعة، ثمَّ مسألة الوحي، ثمَّ مسألة تحريف الكتابات المقدَّسة السابقة لتشكُّل الشريعة، ثم مسألة الانتقال من الرمزانيَّة الدينيَّة إلى سلطة الدولة، ثمَّ مسألة مكانة الشخص البشريّ.

وكل هذه المسائل العديدة والتساؤلات لم تُمَسّ إلَّا مسًّا خفيفَا قبل الفكر الإسلاميّ، أمَّا الفكر الإسلامويّ النضاليّ الصاعد حاليًّا فإنَّهُ يستغلّ إلى أقصى مدى ممكن كلّ الموضوعات والشعارات الإسلاميَّة التقليديَّة لأهداف سياسيَّة وتبجيليَّة، ثم يقمع بعنف كل محاولة لإدخال الحداثة الفكريَّة إلى الساحة الإسلاميَّة أو العربيَّة وهذه الحداثة هي وحدها القادرة على زحزحة الموضوعات التقليديَّة نحو إشكاليَّات جديدة وهي وحدها القادرة على زحزحة العقائد الراسخة والمسلَّمة بها (6).

وصفوة القول، إنَّ في التوفيق بين الاتِّجاهات بإبداع وإنتاج صيغ أخرى وبالتنازلات إلَّا ما هو مشترك كما هو الشأن في مواقف إصلاح ذات البين أو ما ظهر من التوفيق بين التفكير المادِّيّ والفلسفيّ والدينيّ، لحلّ لكلّ الصراعات الفكريَّة المتصاعدة في العالم الإسلاميّ.

________________________

1: برنامج ريسك وأثره في تعليم التفكير الناقد لطالبات قسم العلوم الاجتماعيَّة بجامعة طيبة: (رانيا أحمد علي فقيهي، رسالة مقدمة لاستكمال متطلبات الحصول على درجة الماجستير في التربية ( المناهج وطرق تدريس العلوم الاجتماعية)، المملكة العربية السعودية، وزارة التعليم العالي، جامعة طيبة كلية التربية والعلوم الإنسانيَّة ، قسم المناهج وطرق التدريس 1427- 2006م، ص14.
2: لكلّ أمَّة تراثها الذي هو ثمرة فكرها وعقائدها وحصيلة جهدها العقليّ والروحيّ والإبداعيّ، ولا بدّ هنا من توضيح أمر ذي أهمية بالغة وهو أن التراث الذي هو نتاج العقل البشريّ لا يشمل الوحي الإلهي.(أنظر: الإسلام اليوم مجلة دوريَّة تصدرها المنظَّمة الإسلاميَّة للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو بالعربية والإنجليزيّة والفرنسيّة، العدد الثامن والعشرون السنة السابعة والعشرون  1433هـ  2012م.عبد العزيز بن عثمان التويجري التراث والهوية، ص15.)
3: العلوم والتكنولوجيا في دول منظّمة التعاون الإسلاميّ (الأهداف والأولويات والإجراءات 2016-2015)، العلوم والأمة وتنشئة العقل المفكر، الدورة الثلاثين للجنة التنفيذيّة والجمعية العامّة الخامسة عشرة للكومستيك (إسلام أباد- باكستان) 31 مايو – 1 يونيو 2016م، ص14.
4: التفكير النقديّ مدخل في طبيعة المحاجة وأنواعها، عمرو صالح يس، تقديم جاسم سلطان، نشر الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى – بيروت 2015م،ص 134.
5: 
التفكير الدوليّ الأوَّل لكليَّة التربية (التربية: آفاق مستقبليَّة) من الفترة 23- 26 جمادى الآخرة 1436هـ الموافق ل 12 – 15 أبريل 2015م/ مركز الملك عبد العزيز الحضاري، ص12و12و13.
6: الفكر الإسلاميّ نقد واجتهاد: محمد أركون، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي للنشر والتوزيع، الطبعة السادسة 2012م،ص24و25.

جديدنا