في الحاجة إلى التربية على التفكير النقديّ

image_pdf

مارس الغربيّون و ما زالوا،  النقد بدون تحفُّظ ولا شروط مسبقة، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدُّم وازدهار، بيد أن منطقتنا العربيَّة والإسلاميَّة غيّبت هذا السلوك في جميع مناحي الحياة، فبقيت خارج الزمن ثقافة وفكرًا وإبداعًا،  رغم أن لديها في تراثها ممارسات نقديَّة عديدة كان لها الأثر الإيجابيّ في زمنها.

فما هي الدواعي التي جعلت الفعل النقديّ ضامرًا في ثقافتنا، بل نتوجَّس منه خيفة؛ هل يرجع إلى ذاتيَّة النصّ الدينيّ أم إلى عوامل  تربويَّة وثقافيَّة وسياسيَّة؟

لا شكّ أن المرجعيَّة الإسلاميَّة التي تستند إلى القرآن والسنَّة حافلة بالممارسات النقديَّة؛ فالقرآن يُعَدُّ كتاب حوار وتساؤل ونقد بامتياز، وقد وضع القرآن للناس تأسيسات جديدة تحدَّى بها النسق الثقافيّ السائد. ونسوق على سبيل التمثيل بعض الشواهد الدالَّة على الدعوة إلى النقد.

أولا: نلاحظ أنَّ النقد القرآنيّ غير متحيِّز، حيث شمل كلّ المخلوقات والأشخاص، (الأنبياء والصحابة) وكذا التصوّرات والمعتقدات والعلاقات والسلوكات، كما صوَّب النصّ القرآنيّ سهام نقده إلى الطغاة والملأ والقوم والطبقة، لقد قام بنقد جذريّ للموروث الدينيّ السابق عن الدين الاسلامي، وقام أيضًا الأنبياء بانتقاد مجتمعاتهم؛ وقصَّة أهل الكهف في جوهرها تحكي لنا عن فتية ناقدين لواقعهم السياسيّ والاجتماعيّ…

كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد، وكان القرآن الكريم يصوّبه/ ينتقده إن أخطأ؛ ليؤكِّد للناس بشريّته “ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ …” التوبة43“” وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ..” الأحزاب 73   “ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ” الأنفال68  “ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ” عبس 1 و2 وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ” القيامة2 .

ثانيا:  يطول الحديث بنا إذا طفقنا نسرد بعض الممارسات النقديَّة في النصوص الحديثية وبعض الأحداث والوقائع من السيرة النبويَّة؛ ورغم ذلك نسوق أحد الأمثلة، الذي يبرز دور النساء في نقد السياسات العامَّة بلغة العصر. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على ممارسة الفعل النقديّ مع أصحابه من كلا الجنسين، حول الآراء والاجتهادات التي تصدر عنه، وسار على نهجه أصحابه الكرام؛ ( روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: والله إن كنَّا في الجاهليَّة ما نعد النساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم. قال: فبينما أنا في أمر أتأمره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا كذا؟ فقلت لها: ما لك ولما ها هنا؟ فيما تكلفك في أمر أريده؟ فقالت: عجبا لك يا بن الخطاب، ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان، فقام عمر فأخذ رداءه مكانه حتى دخل على حفصة فقال لها: يا بنية، إنك لتراجعين رسول الله حتى يظل يومه غضبان؟ فقالت حفصة: والله إنا لنراجعه). (البخاري في كتاب التفسير).

أمَّا الخلفاء الراشدون فكانوا أكثر تطبيقًا لهذا المبدأ؛ مبدأ حرِّيَّة المراجعة والنقد والمعارضة والتقويم المستمرّ لسياساتهم وتصرفاتهم واجتهاداتهم، يكون ذلك من خلال خطبهم أمام الناس:” إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني” ” الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا اعوججت قوَّمني”. ونكتفي بالاشارة إلى أنَّ مفهوم التوبة في الثقافة الإسلاميَّة ما هو إلا تعبير عن نقد ذاتيّ.

لا يختلف اثنان حول  النقد باعتباره ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانيَّة، فضلًا عن أهمّيّته لكلِّ تجمّع بشريّ يهدف إلى تحقيق غايات معينة. واليوم  ترفع جُلّ التجمُّعات السياسيَّة والحقوقيَّة والمدنيَّة في ربوع وطننا العربيّ، شعار النقد والمراجعة لبرامجها ومشاريعها، فإلى أيّ حدّ كانت هذه المؤسَّسات الرسميَّة (حكوميَّة) وغيرها وفيَّة لما تقوله، أو بالأحرى تقبل نتائج الممارسة النقديَّة ومخرجاتها؟

طالما أن أوضاعنا على شتَّى الصعد تراوح مكانها، ومآسينا في ازدياد؛ فإنَّ ما يشاع من نقد وانتقاد في بلادنا محض تقليد ” للغالب” الغربيّ، فالنقد لا يعدو أن يكون وهمًا أو سرابًا يحسبه الظمآن ماء، ليس لأنَّه يمسّ ظواهر وسلوكيَّات متفرِّقة هنا وهناك فحسب، ولكن لأنَّهُ غير مؤسَّس على اقتناع مبدئيّ صادق؛ بدليل أنه  لم يتحوَّل إلى سلوك يوميّ في الحياة موازٍ للفعل والحركة. وما يحصل في الغالب الأعمّ ممَّن يتصدى لنقد الثقافة الدينيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والتربويَّة؛ ينظر إليه أنه يبحث عن زعامة أو منصب ما أو يريد أن يصرف مشاكله الشخصيَّة أو أنَّهُ عميل أو يُتَّهم بأنَّهُ يريد زعزعة عقيدة المسلمين. وغير ذلك من الاتِّهامات، فمعظم الأفراد يستوي فيهم بعض المثقَّفين وغيرهم، يؤثرون أجواء المجاملات و محاباة أصحاب السلطة، أمَّا ذلك الناقد الغيور على أمّته ودينه يصبح منبوذًا في مجتمعه، وهكذا تضيع فرص التغيير والتطوير، وتحرم الأمة من أفكار مبدعة، وما يزيد الطين بلة تكريس مؤسّستنا التربويّة تلقين الأجوبة الجاهزة الناجزة، دون مساءلتها وإعادة النظر فيها، وترويج ما استهلكه السابقون، رغم انتهاء صلاحيته، واستنفاد غرضه، كما أضفت مؤسّستنا الدينيَّة المتمثِّلة في الفقهاء والعلماء هالة القداسة على الموروث الدينيّ بشخوصه ونصوصه.

فأضحت أي محاولة نقديَّة تقترب من المنظومة الفكريَّة والمنهجيَّة للعقل المسلم، يكون مصيرها اللامبالاة والإقصاء والتهميش. وما يزال التوجُّس خيفة من نتائج الممارسة النقديَّة المعرفيَّة مستمرًّا، حيث يعزى إلى عدم الوثوق من الأفكار والتصوّرات التي تتبنَّاها، وكذا الخوف من أن يسحب من تحتها البساط. فالأفكار الهشَّة والضحلة تنمو وتترعّرع في وسط الكوابح والضوابط والقيود، أمَّا الأفكار الحيَّة والمنتجة فتنمو وتحيا وسط فضاء الحرِّيَّة والنقد.

وإذا نظرنا في أعمال وسلوك بعض الفاعلين في المجتمع، فنجد على سبيل المثال الحركات الدينيَّة أفرغت مفهوم النقد من مضمونه الحقيقيّ، ولم تلتفت إلى النصوص الدينيَّة التي تدعو إلى وجوبه وتتمثّله، فأصبح النقد عندها يساوي السبّ والشتم والتجرُّؤ على توابث الدين والخروج عن الجماعة، أمَّا النخب الثقافيَّة فبقي خطابها النقديّ في برج عاج يتمُّ تناوله في الأوساط الأكاديميَّة فحسب، لا أثر له في الواقع، أمَّا مناهجنا التعليميَّة وبرامجها ففيها كل شيء إلا ثقافة النقد؛ لأن هاجسها هو إرضاء الجميع، بحيث تعرض على الناشئة خليطًا من القيم المتضاربة فيما بينها.

رغم الجرعات النقديَّة الهائلة التي قام بها الكثير من المفكِّرين والمثقّفين في ربوع الوطن العربيّ ومن الساحتين السنيَّة والشيعيَّة، فإن صداها لم يصل بالشكل المطلوب إلى محاضننا التربويَّة، ولم ينعكس إيجابيًّا على الأجيال الصاعدة، ومن ثمّ فالجهود لتعزيز ثقافة النقد والانتقاد و التفكير النقديّ، ينبغي أن تبدأ من هذه المؤسَّسات التربويَّة والتعليميَّة، بعد تحديد أدوارها بدقَّة وعلاقتها بالمجتمع، وتمتّعها بالاستقلال النسبيّ على السياسيّ.

جديدنا