المدرسة العربية وإشكالية إنتاج الإرهاب والتطرف؛ المعلِّم من متهم بتفريخ العنف إلى حاضن للحوار

image_pdf

المدرسة العربية في عباءة المتهم

غداة الأزمات الأمنية التي عصفت ببعض الدول العربية خلال تسعينيات القرن الماضي كالجزائر ومصر، وبعد أحداث سبتمبر من سنة 2001، تعالت بعض الأصوات المنخرطة في إطار المقاربات التي حاولت تشخيص جذور تشكل هذه الموجة العُنْفِية، لتوجّه أصابع الاتهام إلى المنظومة التربوية العربية بتفريخ الإرهاب، من خلال:

أ/ التأطير: لجأت أغلب الدول العربية بعد استقلالها من الاستعمار الأجنبي إلى إقرار مبدأ إجبارية التعليم، لكن أمام العجز الرهيب في التأطير آنذاك، اضطرت إلى الاستنجاد بمعلمين لا يتمتع الكثير منهم بالكفاءة والمسؤولية. ليس هذا فحسب، بل إن عددا لا بأس به منهم كانوا يروّجون لأفكار وتيارات دينية متشدّدة، أسهم بعضها في تهيئة الأرضية لتعشيش الفكر المتطرف.

ب/ المناهج التربوية: محتوى المناهج التربوية المعتمدة في المدارس العربية خلال النصف الأخير من القرن الماضي لم يراع تكوين مواطن مستقبلي يؤمن بالحوار والتعايش الإنساني، مواطن عصري منفتح على الآخر، ينبذ العنف ويحارب التطرف، بقدر ما كانت الأنظمة الشمولية تستهدف تطويع أفراد المجتمع لينتصروا للأيديولوجية التي تبنتها السّلطات العربية. هذا ما انعكس على المناهج العربية مضمونا، أما من حيث الممارسة فهي تسهم في خلق إنسان مُغيّب العقل، منقاد دون تشكيك أو نقد، يُلغي من أجندته التفكير والتأمل، من خلال الطرق البيداغوجية الكلاسيكية المبنية على التلقين والاسترجاع.

أما الحديث عن محتويات المناهج التربوية التي تشير إلى التطرف والتشدد، فعادة ما يتم ربطها بمواد التربية الدينية أو الإسلامية كما تسمى في بعض المنظومات التربوية، وحتى مؤسسات التعليم الديني التقليدية، إذ أن بعض المدارس القرآنية تعدّى دورها تحفيظ القرآن إلى عمليات غسيل الدماغ ونشر الفكر المتطرف.

صحيح أن كثير من المنخرطين في حركة التطرف العنيف هم من خريجي المدارس العربية، لكن أغلبهم كانوا ضحية التسرب المدرسي، فالمستوى التعليمي للكثير منهم لا يتجاوز المرحلة الإعدادية في أحسن الأحوال. ثم إن تفسير الظاهرة الإرهابية لا يرتبط بالمدرسة فحسب، إذ لا يمكن استبعاد العوامل الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية التي أسهمت في الدفع بهم إلى عالم الراديكالية.

نوافذ الإصلاح

رغم أن قضية إقرار المناهج التربوية تعدُّ من المجالات المُعبّرة عن السيادة، إلا أن الإدارة الأمريكية لم تتورّع في مطالبة الدول العربية بإصلاح منظوماتها التربوية بُعيد أحداث 2001. ووقوفا عند ذلك قامت عديد الدول على غرار السعودية بإعادة هيكلة برامجها المدرسية وفق التوجيهات الغربية. رغم ذلك لم تكن الدوائر الأجنبية راضية على مستوى الإصلاح، ففي تقرير أصدره مركز “فريدوم هاوس” سنة 2006 أشار إلى أن الكتب المدرسية الرسمية السعودية للدراسات الدينية الموجهة للطورين المتوسط والثانوي لا تزال تشجع على كراهية المسيحيين واليهود وحتى المسلمين من غير الوهابيين.

إن الإصلاح الذي مسّ المنظومات التربوية العربية منذ بداية القرن الـ 21، لم تكن رغبة وطنية بقدر ما كانت إملاءات خارجية، وهو ما ولّد رفضا مسبقا لمحتوى المناهج الجديدة. وموجة انتقاد شديدة من التيارات المحافظة، التي تتهم الوزارات الوصيّة ومن وراءها الحكومات بمحاولة طمس ثوابت المجتمع العربي.

بإطلالة سريعة على مضمون المناهج التربوية الجديدة، يتضح توجهها نحو ترسيخ قيم الحوار والتعايش الإنساني وحوار الحضارات، والإقرار بالتنوع الثقافي واحترام الآخر وتقبله. ورغم الجوانب الإيجابية المسجلة على البرامج الجديدة، إلا أنه كان من الأجدر أن تتم هذه العملية في جو تسوده شفافية أكثر.

لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا أن الهيئات المشرفة على عمليات الإصلاح وقعت في عدة منزلقات، لكن الذين يرفضون الإصلاح من أساسه لم يبلوروا خطابا مؤسسا ومقنعا واكتفوا بترديد شعارات جوفاء. فالكثير من المنخرطين في هذا اللغو الفكري يفضلون عالم مسرح الظلال الخيالي على نور الحقيقة الساطع على حد تعبير الروسي “سيرجي قره-مورزا”، إذ رغم إدراكهم للوضعية البائسة التي تقبع فيها منظومتنا التربوية إلا أنهم لا يترددون في الدعوة إلى العودة إلى منظومات سالفة أدّت جزءا من دورها في ظروف معينة قد لا تتوافق مع عالمنا اليوم أين تكتسح العولمة كافة مجالات الحياة، وهم في ذلك يشبهون سَكَنة الكهف الذين تحدث عنهم أفلاطون.

في مصر مثلا، اتهمت بعض التيارات المحسوبة على الإسلام السياسي النظام المصري باستبدال برامج التربية الدينية بكتاب “القيم والأخلاق”، وهو ما نفته وزارة التربية. وفي الجزائر شنّت بعض الأطراف حربا شرسة على الوزارة، محاولةً توظيف بعض الأوراق بغية إلغاء العمل بمناهج الجيل الثاني.

بعيدا عن هذه السجالات، يتبادر إلى أذهاننا إشكال عميق يتعلّق بمدى الاستعداد الصادق للسُّلطات العربية الحالية في إصلاح أحوال التعليم وهي التي تريد شرعنة وجودها وحكمها من خلاله؟.

المعلِّم، أي دور؟

إذا سلّمنا عرضاً بأن المناهج التربوية السابقة كانت تختزن بين طياتها توجها مبطّنا نحو التشدد واللاتسامح، فهل يمكن التعويل على الأستاذ بوصفه طرفًا فاعلًا في المنظومة التربوية ومحركًا للعملية التعليمية، في الانخراط ضمن مسعى تحديث المنظومة التربوية وخدمتها للانفتاح على الآخر والتعايش معه وهو الذي اتهم سابقا بالمساهمة في تفريخ العنف؟

رغم أن وزارات التربية في الأقطار العربية تقوم بدورات تكوينية لصالح الأساتذة والمعلمين، إلا أن هذا التكوين يقتصر على الجانب المنهجي الذي يرتبط بطريقة إعداد الدروس وتطبيق المناهج خاصة في جانبها المعرفي، ولا يتعدّاه إلى وضع المدرّس في صورة ما يجب أن يقدّمه لتلامذته في الجانب القيمي والسلوكي. فبدون تحضير الأستاذ لمهمة من هذا الحجم، لا يمكن أن ننتظر نتائج ملموسة على أرض الواقع.

ختاماً

بما أن المدرسة هي المجسّد الرئيس لمشروع المجتمع، وباعتبارها وسيط تنشئة اجتماعي مرتبط بالواقع كما يراها “جون ديوي”، تستهدف تكوين مواطن حر ومستنير، كان من الضروري بناء استراتيجية عربية في ميدان التربية تجعل منها وسيلة لإضفاء نوع من التجانس المجتمعي وترسيخ قيم الحوار والتضامن. ولا يكون ذلك إلا باستئصال العنف، الذي لا يزال يمارس بأشكال متعددة داخل الفضاء المدرسي. إضافة إلى الحدّ من التسرب المدرسي الذي يعتبر سببا هاما في النزوع للتطرف العنيف.

ويبقى على الهيئات الوصيّة تجاوز الحلول الترقيعية، فمعالجة مشكلة التطرف والعنف لا تتم فقط بحذف بعض الدروس التي لا تتضمن أحكامًا دينية بقدر ما هي فهوم بشرية للدين، بل يستدعي إدراج مضامين تشجع على الحوار مع الآخر وتقبّله، والأهم من ذلك ممارسته. إلى جانب مراجعة الكتب المتوافرة على مستوى المكتبات المدرسية، والتي يتم اقتناؤها غالبا دون تدقيق في محتوياتها. فضلا عن إعداد المعلمين والأساتذة من خلال إخضاعهم لعمليات تكوينية، بغية تحسيسهم وتهيئتهم لأداء هذه المهمة، كما أنهم مطالبين بالتقرب أكثر من تلاميذهم لمعرفة نمط تفكيرهم ومواجهة أي بوادر للتطرف.

ولأن علاقة المدرسة بالتدين علاقة حساسة، يقترح الدكتور “العربي فرحاتي” المختص في شؤون التربية إعادة صياغة التربية كما لو أنها حرية، لأن الحرية هي الضامن لتعايش تجربة التدين من حيث هي متعددة، ويكون الحوار هو السبيل لذلك.

جديدنا