نهضـة الأمـم بصناعـة المعلِّم؛ من محاضن الصبيان إلى جامعات الرجال

image_pdf

“حاجة الشعب الأولى بعد الرغيف هي التربية”.  جورج  دانتون

تنبهت الدول والبلدان بكل أقطار المعمورة بشتى أنظمتها السياسية والأيديولوجية المختلفة، إلى أهمية التعليم كأهم القضايا وأولاها في نهضة الأمم وتقدمها، كأولوية للبناء تجلى معها دور المعلم في قدرته على قيادة مسار التغيير إن هو استحضر في مسلسل هذا التغيير ونال من الأهمية ما يصيخ السمع لصوت ندائه ورسالته التي كانت عبرها الأجيال، توحي بدوره الأسمى وتأثيره الأبلغ في تشكيل العقول وبناء الذهنيات وتحديد القيم والتوجهات لرسم إطار مستقبل المنطقة العربية، فالمعلم إذ يحضر واضعًا لبنة هامة في المنظومة التعليمية التي تعد رهانًا من رهانات أي فعل تنموي كميدان يتقرر فيه المستقبل وعلى نتائج غرسه يتوقف مصير الأمم، فهي جزء وشرط من شروط النهضة بالمنطقة العربية.

فالتعليم يتبوأ مكانة سامقة في أي مشروع تغييري، فهو المحرّك الأساسي لتطور الحضارات ومحور نماء المجتمعات، ولا جدال في ذلك إن كان اشتغال المعلِّم ينصب في البدء والختام على الإنسان الذي يعتبر أُس التغيير وأداته وهدفه وغايته في الوقت نفسه. وبهذا تكون النهضة مطمحا أثيرًا ومطلبًا عزيزًا ممتنعا يرتبط ارتباطا قويا بإصلاح مناهجنا التربوية في زمن أعز ما يمكن أن يطلب فيه، هو معلِّم يعد أجيالا من خلالها يتعرف على نفسه وينفتح على محيطه. ومهما اتخذت الدول من أسباب النجاح على مستوى الهياكل والبرامج واستفرغت فيها من الجهد الجهيد بحثًا وتجديدًا وتعديلًا وتغييرًا  يتلاءم وحاجات المجتمع، وهي إجراءات كثيراً ما تضع المنطقة العربية في مؤخرة الركب ما لم تولي وجهها ناحية المعلم. فالفشل إذ يكون في إعداد المعلِّم ونهج أسلوب الانتقاء حتى تكون هذه الواسطة/المعلم على القدر الكبير من الكفاءة وعلو الباعث من شأنها أن تبني الإنسان كأحد أهم عناصر البناء الحضاري التي تحدث عنها المفكر الجليل مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة: “إن الحضارة: إنسان، وتراب، وزمن، وبذلك فإنه عند نقطة الانطلاق ليس أمامنا سوى هذه العوامل الثلاثة، وفيها ينحصر رأس مال الأمة الاجتماعي، وكل ما عدا ذلك من مبان وصناعات، يعد من المكتسبات لا من العناصر الأولية”.

إذا استفهمنا التاريخ عن سر تدهور مدارسنا وجامعاتنا وتأخر نهضة منطقتنا، نجد أن انبعاث أي شكل من أشكال النهضة بالمنطقة العربية لابد له من أساس تقوم عليه ويؤسس لشروط انبنائها الأولى، وانوجادها وقيامها، وهو ما يطرح سؤالًا جوهريًا ويجيب في ذات الوقت عن سر تعثر نهضة الأمة العربية، حيث الاستفهام حول ما إذا كان تعليمنا في لونه التقليدي هو امتداد وشكل من أشكال إعادة الإنتاج المجتمعي لكل ما من شأنه أن يكوّن تراثًا وثقافة، وأفكارًا وقيمًا وتوجهات وأيديولوجيات؟

هو سؤال يدفعنا لإثارة الآسن من أسئلة النهضة العربية المعطوبة، ويستوجب الحفر العميق بحثاً في ثناياها عن المعنى الحقيقي لفعل المعلم كمناضل فكري تعلق عليه آمال الأمة في البناء والتغيير، شرط أن يكون رهان النهضة متصلًا بالجرأة في إقرار بناة المشاريع بدور المعلم في هذا البناء، حتى لا يكون إنسًا منسيًا، بلا جدوى أو معنى، فمجتمعاتنا العربية في أمس الحاجة إلى نهضة في التعليم، باعتباره مقياسا لتقدم الأمم، إذ ليس هناك ما يعود بعائد استثماري أعلى من الاستثمار في التعليم وجعله في صلب أجندة القائمين على المشاريع المجتمعية وخاصة مراحل التشكيل والبناء الفكري للإنسان، فطالب اليوم رجل وامرأة الغد، ولن تجدي عشرات الاستثمارات اللاحقة لتعويض ما ضاع من سنوات التأهيل والتهيئة والتشكيل والتغيير. فهل لنا من قراءة تتجاوز حدود الحنين الآسر وعواطف الأسى والحسرة والبكاء على ذلك الماضي/ النموذج، ماضي الأجداد والأمجاد، والألقاب والبطولات التي لو شالها الفيل لمال؟

إنه زمن مضى ويجب أن نتحرر مع مضيه من ربقة التبعية والتقليد وأصفاد وإملاءات القديم. وما أدل على ذلك أكثر من قول سيدنا علي كرم الله وجهه: ” ربوا أبناءكم تربية غير تربيتكم فإنهم يعيشون لزمان غير زمانكم “، فنحن اليوم في حاجة أكثر مما مضى إلى تفكير إبداعي وتجديدي، وعدم التسليم بالمقاربات النمطية والتقليدية الجاهزة والمطمئنة، فما كان وسيلة تربوية وتعليمية فعالة بالأمس، ليس بالضرورة أن تكون كذلك في كل زمان، وما كان يصلح لأجيال العقود الماضية، ليس بالضرورة مناسباً وجذابا في أي عصر وجيل.. فالطرق التقليدية على حد تعبير الدكتور وليد فتيحي والتي تعتمد على أحادية المنهج وتنتج نسخًا متشابهة من الأشخاص ذوي الأهداف والرؤى النمطية، أصبحت غير مقبولة لهذا الجيل، فهي لا تفتح المجال للاختلاف والإبداع والتعددية في الأهداف والتوجهات للمتعلمين، ولا تضع بالاعتبار اختلاف القدرات والمهارات والاحتياجات من شخص لآخر.

إن ما نحتاجه اليوم ليستعيد المعلِّم ألقه ويؤسس لدوره الحيوي الفعال في بناء مشاريع النهضة العربية، ليس فقط تجاوز الماضي بحمولته الثقافية وتراكماته التراثية. فليس لنا أن نبدأ من الصفر، بل نبدأ من حيث انتهى الآخرون وفق رؤية تجديدية تفتح الآفاق أمام المعلم العربي ليغير نظرته ويعيد قراءة واقع الأمة بعيدا عن النقل والتقليد ليعمل بدل ذلك العقل والنقد، ويسهر على بث قيم الإبداع وحرية البحث والإيمان بتعددية المعرفة وكونية العلم والعمل الجماعي والقدرات الخلاقة للموارد البشرية، فالإبداع لديه عوضًا عن التلقين. فيزرع قيم السماحة الفكرية والدينية في عقول ونفوس وضمائر الصغار من أبناء المجتمع، ويحيي الرغبة في التعرف على الآخر في برامجه، ويغير من نظرة الشباب داخل الجامعات لبلادهم ولدولهم من خلال مسلسل الإصلاح السياسي والاجتماعي، ليبدأ الشباب الجامعي بتغيير رؤية الآخر والخارج له وفق مبدأ كون التقارب بين الشعوب يبدأ من تطور مستوى التعليم والثقافة، ونمو فكرة تقبل الآخر، فيتم بذلك التأسيس لمفهوم إنسانية التقدم والعلم والمعرفة، ويستأصل التعصب والتزمت من البنية الفكرية لأبناء المجتمع في سبيل نهضة حقيقية أساسها العلم والحضارة والقيم الإنسانية الكونية.

جديدنا