هل كان محمد عبده علمانياً؟!

image_pdf

ارتبط مفهوم العلمانية بفلسفة الحداثة في النموذج الغربي الحديث، وهو ما جعل البعض يعانق بينهما؛ بحيث لا يمكن فصل الحداثة عن تبني قيم العلمانية. وقد تعددت تعريفات الحداثة؛ ففي أحد تعريفاتها أنها عبارة عن سعي دائم للتجديد والابتكار، ورفض للجمود أو التقليد.. إنها قدرة المفكر على ممارسة تجربة فريدة، وليست الحداثة بهذا المعنى انقطاعًا عن التراث الفكري السابق للمفكر أو رفضًا لقيم التراث، بل على العكس إنها استثمار للعناصر الحية فيه، و أغناء لها بدافقات جديدة تمنحها المزيد من الحياة والقوة([1]).

ولقد تميز المشروع الفكري التجديدي للإمام محمد عبده في المجال السياسي بالدعوة إلى مدنية الدولة والحكومة، ونفي السلطة الدينية عن الحاكم، ومناداته بحرية الفكر من قيد التقليد، وتأكيده على أهمية الحريات السياسية (حرية الرأي والانتخاب والتعبير)، ورفعها إلى مستوى الحقوق المقدسة، هذا بجانب انفتاحه على الحضارة الغربية.

كل هذه الأمور دفعت فصيلاً من المثقفين إلى ادعاء أن الإمام محمد عبده من دعاة الفكر العلماني في العصر الحديث، بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك إلى اعتباره من أهم رموز الفكر العلماني في الثقافة العربية الحديثة.

إلا أن المتتبع إلى فكر الإمام يرى عكس ذلك، بل يراه حريصًا على ضبط الإيقاع بين مرجعيته الإسلامية وانفتاحه على التنوير الغربي، وهو ما جعل مدرسة الإمام تتسم بطابع التجديد وليس التغريب أو التقليد.

فإعجابه ببعض مظاهر التمدن في الغرب لم يمنعه من توجيه سهام النقد لهذه الحضارة من منظور ثقافته الإسلامية، ففي مجموعة مقالات للإمام رد فيها على هانوتو وزير خارجية فرنسا، تناول فيها الأخير الحديث عن الإسلام والمدنية الغربية.

قال: (هل خطر ببال (مسيو هانوتو) أن يجعل (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) كما أوصى الإنجيل؟ وهل رأى مثالاً لذلك في المدنية الآرية التي ناخت مع الدين المسيحي؟ العيان يدلنا على أن شيئًا من ذلك لم يكن، فإن هذه المدنية إنما هي مدنية الملك والسلطان، مدنية الذهب والفضة، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الختل والنفاق، وحاكمها الأعلى هو الجنية عند قوم، والليرة عند قوم آخرين، ولا دخل للإنجيل في شيء من ذلك)([2]).

ويعقب الإمام على كلام (ميسو هانوتو) قائلاً: (إن أوروبا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية).

فيقول، وهو كلام صحيح، ولكن لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص عند المسلمين، لم يعرف المسلمون في عصر من العصور تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا عند الأمم المسيحية، عندما كان يعزل الملوك، ويحرم الأمراء، ويقرر الضرائب على الممالك، ويضع لها القوانين الإلهية.

وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقًا للحاكم الأعلى، وهو الخليفة أو السلطان، ليس للقاضي صاحب السلطة الدينية، وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية، والمدافع عنها بالحرب، أو السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم وليس له عليهم إلا التولية والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن.

وهذه الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية، وشرعت نظامًا لطريقة الحكم وعدد الحاكمين ومللهم، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها.

وكذلك حكومة مصر أنشئت فيها محاكم مختلطة، ومحاكم أهلية بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم لا دخل بشيء من ذلك للدين، فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى كما يطلب (ميسو هانوتو)([3]).

وفي هذا التميز بين مشروع الإمام محمد عبده والعلمانية الغربية يشير “ألبرت حوراني” إلى أن الإمام قد أخذ على العموم بالفكرة التي أخذها من الأولين، وهي تفيد بأنه لا يمكن للعقيدة المسيحية في صياغتها التقليدية أن تصمد أمام اكتشافات العصر الحديث، إلا أن الإمام يرفض من جهة ثانية القبول بمادية المفكرين الليبراليين وأفكارهم اللاهوتية([4]).

بل إن انتماء الإمام محمد عبده واعتزازه بالإسلام جعل لورد “كرومر” السياسي الإنجليزي يصفه بالمتعصب لدينه، فعندما سئل عن الشيخ: هل كان متساهلاً في الإسلام؟ قال: بل هو متعصب له ولكن بالعقل([5]).

بيد أن هذا الانتماء للهوية الإسلامية كان سببًا لنقد الإمام ومدرسته، فالدكتور أنور عبد الملك يوجه نقدًا لفكر محمد عبده فهو يراه مفتقرًا للإبداع والعمق النظري، وله نتائج خطيرة، منها حظر ممارسة أي فكر يريد أن يستقل عن الدين، وهو بتحديثه للدين التقليدي رد له فعاليته وجعله الرابطة الوحيدة التي توحد الأمة، مع أن تاريخ الفكر المصري المعاصر عبارة عن محاولات عقلانية من كل نوع تُواجَه دومًا بالدعوة إلي الدين([6]).

ثم يتناول الإمام الحديث عن الإسلام كدين وتشريع ومدى تحقق مقولة (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر) فيه، والتي هي من أهم مقولات الفكر العلماني على طبيعة الإسلام، فيقول: (ظهر الإسلام لا روحيًا مجردًا ولا جسديًا جامدًا، بل إنسانيًا وسطًا بين ذلك، آخذًا من كل القبليين بنصيب، فتوافر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يوفره غيره، ولذلك سمّى نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم وعدوه المدرسة الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية، ثم لم يكن من أصوله (أن يدع ما لقيصر لقيصر)، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصرًا على ماله، ويأخذ على يده في عمله([7]).

جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا، فهدى ضالاً، وألان قاسيًا، وهذب خشنًا، وعلم جاهلاً، ونبه خاملاً، وأثار إلى العمل كسلاً، وأصلح من الخلق فاسدًا، وروج من الفضيلة كاسدًا، ثم جمع متفرقًا، ورأب متصدعًا، وأصلح مختلاً، ومحا ظلمًا، وأقام عدلاً، وجدد شرعًا، ومكن للأمم التي فيها نظام امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله كمالاً للشخص، وألفة في البيت، ونظامًا للملك، وظهرت به آثار النعمة عليهم في جميع شئونهم، ولم يفت العلم حظه من عنايته، بل كان قائده في جميع وجوه سيره)([8]).

ثم يستشهد الإمام بمقولة الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب، وهو في المدينة من بلاد العرب: (ولو أن سخلة (ولد الشاة) بوادي الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر)؛ لدلاله على دور الدين في الشأن السياسي كموجه للخير، وهادٍٍ إلى الطريق المستقيم، ووازع إيماني يدعو إلى القسط، ويردع عن الظلم([9]).

وعندما تكلم الإمام عن مشروع النهضة، كيف ننهض؟ وما المرجعية لنهضتنا؟، نجده يقول: (أهل مصر قوم أذكياء يغلب عليهم لين الطباع واشتداد القابلية للتأثير، ولكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية، وهي أن البذرة لا تنبت في أرض إلا إذا كان مزاج البذرة مما يتغذى من عناصر الأرض ويتنفس بهوائها، وإلا ماتت البذرة بدون عيب في طبقة الأرض وجودتها، ولا في البذرة وصحتها، وإنما العيب على الباذر. أنفس المصريين أشربت الانقياد إلى الدين حتى صار طبعًا فيها، فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين فقد بذر بذرًا غير صالح للتربة التي أودعه فيها، فلا تنبت ويضيع تعبه ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك ما شوهد من أثر التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم يزدادوا إلا فسادًا، وإن قيل إن لهم شيئًا من المعلومات، فما لم تكن معارفهم وآدابهم مبنية على أصول دينهم فلا أثر لها في نفوسهم).

ويضيف الإمام: (إن سبيل الدين لمريد الإصلاح في المسلمين سبيل لا مندوحة عنها؛ فإن إتيانهم من طريق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين يحوجه إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من عماله أحدًا)([10]).

ويبرئ الإمام الدين من وضعية المسلمين وغياب المدنية من حياتهم، ويرجعه إلى سوء فهم المسلمين له، فيقول: (وا أسفاه لم يبق من الدين إلا هذه الثقة به، أما الدين نفسه فقد انقلب في عقل المسلم وضعه، وتغير في مداركه طبعه، وتبدلت في فهمه حقيقته، وانطمست في نظره طريقته، وحق فيه قول على كرم الله وجه: (إن هؤلاء القوم قد لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبًا)([11]).

بل إن انتماء الإمام محمد عبده جعل البعض يقرأه قراءة أصولية من منطلق أنه مفكر متدين، أو كاتب ديني، أو ما إلى ذلك، فهو أزهري، وصاحب وظيفة دينية، و منطلقاته إيمانية، كان مؤمنًا في سلوكه اليومي وكتاباته، ويدل على ذلك ما قام به، مثلاً عندما قامت جمعية (العروة الوثقى) التي صاغ عهدها الإمام حيث إن عضو الجمعية يقسم بالله على أن يحكم بكتاب الله في أعماله وأخلاقه ويجيب الدعوة إلى الله، ويبذل ما في وسعه لإحياء الأخوة الإسلامية، وأن لا يقدم إلا ما قدمه الدين ولا يؤخر إلا ما أخره الدين)([12]).

ولعل أصولية الإمام إذا ما طرحت مع أفكاره الأخرى نجد أنها لم تكن أصولية راديكالية تضاهي أصحاب الأفكار المغلقة، بل يمكن القول إنها كانت سلفية معتدلة تسعى إلى الحفاظ على الموروث، ليس من خلال إعادة إنتاجه، ولكن عن طريق تجديده لمواءمة الواقع ومستجداته، والانفتاح على النظر الغربي للوجود، فالأصولية عند الإمام أصولية منهجية تستدعي الوعي، وتعبر عن حاجتنا للأمن وللثقة بالذات في حقل الأمم القوية([13]).

بل إنه يمكن القول إن الإمام صاحب نزعة براجماتية عملية، أتاحت لعلماء الدين المستنيرين تقديم تفسير مقبول للدين يقوم على تأويل المذهب الإسلامي وفق تطلعات اليوم؛ وبذلك أتاح للدولة أن تشرع القوانين وتتقدم في طريق الحياة العصرية([14]).


([1]) إشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر، مجموعة كتاب، مركز دراسات العالم الإسلامي، 1991، ص231.

([2]) الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، الإصلاح الفكري، تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة، ص221.

([3])المصدر السابق، 249.

([4]) إشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر، مجموعة كتاب، مركز دراسات العالم الإسلامي، 1991 ص 240.

([5]) الشيخ محمد عبده والتنوير، د. عاطف العراقي قرن من الزمان على وفاته، دار الرشاد، ص106.

([6]) الإمام محمد عبده رائد الاجتهاد والتجديد في العصر الحديث، السيد يوسف، دار الثقافة العربية، ص213.

([7]) الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، الإصلاح الفكري، تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة، ص 240.

([8]) المصدر السابق، ص 240.

([9]) المصدر السابق، ص241.

([10]) فكر التنوير بين العلمانيين والإسلاميين، د. محمد عمارة، جمعية المركز العالمي للتوثيق، ص37.

([11]) الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، الإصلاح الفكري، تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة، ص241.

([12]) الخطاب التربوي والفلسفي عند محمد عبده، د.على زيعور، دار الطليعة ص 150.

([13]) (المصدر السابق ص151).

([14]) الإمام محمد عبده رائد الاجتهاد والتجديد في العصر الحديث، السيد يوسف، دار الثقافة العربية، ص 214.

جديدنا