من يصنع المُعلِّم؟ لغز البيضة والدجاجة

image_pdf

في أجواء تملؤها الحماسة والتفاؤل، بعد أقل من أربعة أشهر من اندلاع الثورة المصرية، وتحديدا في 24 مايو 2011، أذاعت إحدى الفضائيات المصرية تسجيلًا مصورًا لمدرِّس يدعى “مجدي عطية الشاعر” مدير إحدى روضات الأطفال بقرية صغيرة تابعة لمحافظة الغربية وهي إحدى المحافظات الزراعية الواقعة شمال القاهرة. يظهر الرجل وهو يضرب عددًا كبيرًا  من الأطفال بقسوة شديدة باستخدام عصا خشبية قصيرة عقابًا لهم على التقصير في الواجبات المدرسية. في هذه الفترة، كانت أجهزة الدولة بكاملها تحسب ألف حساب لصوت ميدان التحرير – ميدان الثورة – وإملاءاته، ومطالبات من يقوده من شباب الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة. أثار التسجيل المصور للمدرِّس المذكور حفيظة الجميع، وأشعل وسائل التواصل الاجتماعي بالغضب والصيحات التي تطالب الدولة باتخاذ الإجراءات الرسمية فورًا للقبض على الرجل ومحاكمته وإيقاف هذا “العنف الوحشي” على الأطفال. وبين عشيَّة وضحاها تحول السيد “مجدي عطية الشاعر” إلى قضية رأي عام، وأحد رموز الفساد والاستبداد التي قامت الثورة للإطاحة بها…! وفي تحرك سريع لم تعهده الدولة المصرية منذ أيام الفراعنة، تمَّ القبض على الرجل بالفعل وتحويله إلى المحاكمة العاجلة، وإغلاق روضة الأطفال التي يديرها، استرضاء لغضب الثوار الحريصين على الحرية، والرأي العام المتعاطف مع الأطفال. في اليوم التالي نزل أهالي القرية – أولياء أمور الأطفال – بصحبة الأطفال أنفسهم للتظاهر ضد محاكمة الرجل، ومنادين بالحرية له، مؤكدين أنهم لا يرضون عن هذا المدرِّس بديلا لأولادهم، ومطالبين الإعلام بأن يدعهم وشأنهم…! خلال هذه التظاهرة المطالبة بالإفراج عن المدرِّس، تحدث أهالي القرية والأطفال، وقدموا إفاداتهم المصورة حول الموضوع. في أحد التسجيلات قالت أمُّ أحد الأطفال الذي ظهر في التسجيل الأصلي وهو يُضرب بقسوة، إنها هي من طلبت من الأستاذ “مجدي” ضرب ابنها،وإنها راضية تماما عن أسلوب الأستاذ في تعليم أطفالها، وإنها هي نفسها قد تلقت تعليمها على يد نفس المدرس ولا ترضى لابنها أي بديل عن “الأستاذ مجدي”. في إفادة أخرى قال طفل يتلقى تعليمه على يد المدرِّس نفسه:

“التعليم أساسًا هو الضرب، والأستاذ مجدي عنده أيضا ترفيه بجانب الضرب”.  وفي إفادة لأحد الآباء قال “مفيش أي مشكلة أبدا أن يضرب المدرِّس الطفل، المهم أنه يطلع متعلم”.  وفي تسجيل آخر تحدَّث إمام وخطيب مسجد القرية قائلًا:

“كل هذا الغضب ليس إلا بدافع الحقد والحسد على رجل محترم وفاضل، وأنا ربيت أولادي في هذه المدرسة ولم أر منه إلا كل التزام وأخلاق”. وفي إفادة أخرى لأحد أولياء الأمور، قال الأب الذي كان يحمل ابنته على كتفه “لماذا كل هذا الغضب على المدرِّس؟ أريد أن أسأل السيد وزير التربية والتعليم: هل هناك أي مرحلة تعليمية في مصر ليس فيها ضرب للطلاب؟” وأكد أن إغلاق روضة الأستاذ “مجدي” عقاب حقيقي لهم ولأطفالهم…! وبين عشيَّة وضحاها تحول السيد “مجدي عطية الشاعر” إلى بطل قومي، وضحية الإعلام المضلل، ووقف الشباب الثائر “المثقف” الذي طالب بمحاكمة المدرس “العنيف” يضرب أخماسًا في أسداس.  وبعد أيام قليلة استجابت الدولة لضغط أهالي القرية، وتمت تبرئة المدرِّس وإطلاق سراحه وسط احتفالات حاشدة من أهـالـي القريـة وأولـيـاء أمـور الأطـفـال…!

الدولة: الشعب يريد إسقاط النظام!

يعتقد كثير من الناس أن من بيده سلطة الدولة وقوة القانون يستطيع أن يفعل كل شيء، وأن الأوضاع المتردية لمجتمعاتنا ليست إلا نتيجة مباشرة لفساد الحكام وموظفي الدولة وتقاعسهم عن أداء واجباتهم. ويدفع هذا التصور كثيرًا من الشباب وأصحاب مبادرات الإصلاح إلى صب جهودهم في اتجاه الوصول إلى “السلطة” أو على الأقل المطالبة بتغيير من يمسكون بزمامها.

ولا شك أن الأنظمة العربية مليئة بالفاسدين بالفعل، ولا شك كذلك في أن الضغط السياسي على الحكام أمر مفيد ومهم، وأن المطالبة بتغييرهم حق أصيل للشعوب، لكن نحتاج الآن – وبعد هذه السنوات التي انقضت منذ اندلاع الربيع العربي في المنطقة – أن نسأل أنفسنا بمنتهى الصراحة: هل صحيح ما اعتقدنا من أن مشروع التغيير في المنطقة العربية مرهون بإصلاح الدولة وتغيير الأنظمة؟ هل صحيح أن “إصلاح الدولة” في المنطقة هو الشرط الأول للتغيير الاجتماعي؟ هل التغيير السياسي هو نقطة البداية بالضرورة؟

الثقافة: مثلما تكونوا يولَّى عليكم!

وقوة القانون يستطيع أن يفعل كل شيء، وأن الأوضاع المتردية لمجتمعاتنا ليست إلا نتيجة مباشرة لفساد الحكام وموظفي الدولة وتقاعسهم عن أداء واجباتهم. ويدفع هذا التصور كثيرًا من الشباب وأصحاب مبادرات الإصلاح إلى صب جهودهم في اتجاه الوصول إلى “السلطة” أو على الأقل المطالبة بتغيير من يمسكون بزمامها.

ولا شك أن الأنظمة العربية مليئة بالفاسدين بالفعل، ولا شك كذلك في أن الضغط السياسي على الحكام أمر مفيد ومهم، وأن المطالبة بتغييرهم حق أصيل للشعوب، لكن نحتاج الآن – وبعد هذه السنوات التي انقضت منذ اندلاع الربيع العربي في المنطقة – أن نسأل أنفسنا بمنتهى الصراحة: هل صحيح ما اعتقدنا من أن مشروع التغيير في المنطقة العربية مرهون بإصلاح الدولة وتغيير الأنظمة؟ هل صحيح أن “إصلاح الدولة” في المنطقة هو الشرط الأول للتغيير الاجتماعي؟ هل التغيير السياسي هو نقطة البداية بالضرورة؟

تبدو الإجابة على السؤال السابق – ومن واقع تجربة الربيع – بالنفي؛ فالدولة – كما بدأنا نتعلَّم – لا تنشئ الثقافة، وإنما تنشأ عنها. والثقافة التي نعنيها هنا ليست بمعنى “المعرفة” أو “الوعي” كما قد يتبادر لذهن القارئ. وإنما الثقافة (Culture) المقصودة هنا هي منظومة القيم والتوجهات السائدة لأي مجموعة من البشر. “الثقافة” ببساطة هي الطريقة التي يفكر بها الناس، وهي إطار المرجعيات الذي يحدد للأفراد العاديين الصواب والخطأ. الثقافة هي ما تراه في الشارع وما تسمعه من الناس. الطريقة التي يتحدثون بها إليك، والطريقة التي  يتعبَّدون بها إلى الله.

ومن رحم هذه “الثقافة” تولد المؤسسات الاجتماعية (Social Institutions)؛ بمعنى الكيانات والأنظمة التي تتشكَّل لتدير النشاطات والتفاعلات الاجتماعية اليومية، وتنظِّم سلوكيات الناس في أحد جوانب حياتهم. فالدولة على سبيل المثال هي المؤسسة الاجتماعية التي تُنشِئُها الثقافة لكي تدير توزيع “السلطة السياسية” وفق قيم الثقافة وتوجهاتها.

الربيع – بالنفي؛ فالدولة – كما بدأنا نتعلَّم – لا تنشئ الثقافة، وإنما تنشأ عنها. والثقافة التي نعنيها هنا ليست بمعنى “المعرفة” أو “الوعي” كما قد يتبادر لذهن القارئ. وإنما الثقافة (Culture) المقصودة هنا هي منظومة القيم والتوجهات السائدة لأي مجموعة من البشر. “الثقافة” ببساطة هي الطريقة التي يفكر بها الناس، وهي إطار المرجعيات الذي يحدد للأفراد العاديين الصواب والخطأ. الثقافة هي ما تراه في الشارع وما تسمعه من الناس. الطريقة التي يتحدثون بها إليك، والطريقة التي  يتعبَّدون بها إلى الله.

ومن رحم هذه “الثقافة” تولد المؤسسات الاجتماعية (Social Institutions)؛ بمعنى الكيانات والأنظمة التي تتشكَّل لتدير النشاطات والتفاعلات الاجتماعية اليومية، وتنظِّم سلوكيات الناس في أحد جوانب حياتهم. فالدولة على سبيل المثال هي المؤسسة الاجتماعية التي تُنشِئُها الثقافة لكي تدير توزيع “السلطة السياسية” وفق قيم الثقافة وتوجهاتها. والمؤسسة الدينية هي المؤسسة التي تنشئها الثقافة لكي تدير مسألة “السلطة الروحية” والطقوس والتشريع الديني. نفس الأمر بالنسبة للاقتصاد وأنظمة القرابة وغير ذلك.

وبذلك نفهم أن الثقافة تنشئ مؤسسات على شاكلتها، أو تعمل لمصلحتها. ومصلحتها هنا هي الحفاظ على منظومتها القيمية السائدة والمهيمنة على المجتمع.

لاحظ الإفادات المذكورة سابقًا لأهالي القرية. يمكنك أن تجد بينها الأب والأم وإمام المسجد والأطفال أنفسهم، بما يرسم أمامنا مشهد سياق ثقافي كامل، يدعم نمطًا تربويًا بعينه ويفضِّله، بل على العكس يرى فيه ضرورة وفائدة، ولا يرى أي حاجة أساسًا إلى وجود بديل!

التعليم: إنا وجدنا آباءنا على هذا!

وإلى جانب هذه المؤسسات التي تنشأ عن الثقافة، تأتي واحدة من أكثر المؤسسات الاجتماعية أهمية، وهي مؤسسة التعليم، وهي ما يمكن تعريفها بنفس الطريقة السابقة على أنها المنظومة التي تنشئها الثقافة لتعيد بواسطتها إنتاج نفسها. وتعيد الثقافة إنتاج نفسها عن طريق تمرير نفسها إلى الجيل التالي لكي تستمر. صحيح أن الدولة هي من ينشئ “مبنى المدرسة” ويؤثِّث “الفصول” ويدير “السجلات”، لكن ما ينتقل من عقل المدرس إلى عقل التلميذ – وهو المضمون الحقيقي لعملية التعليم -عادة لا تسيطر عليه الدولة بشكل كامل، حتى وإن كانت الدولة هي من يؤلف المناهج الدراسية ويطبع الكتب، لكن الثقافة هي من تحدِّد القيم والتوجهات والمعايير التي تنتقل من خلال علاقة المعلم/التلميذ، التي هي علاقة تواصلية يومية، لا يمكن للدولة أن تتحكم فيها تماماً، وبالتالي يتم تمرير الثقافة إلى الجيل التالي لكي تعاد الكرَّة مرة أخرى. يمكنك أن تلحظ ذلك بسهولة في تصريح الطفل الذي أفاد بمنتهى التلقائية أن “التعليم ما هو إلا الضرب”، لأن هذا هو ما تلقَّاه. تخيل هذا الطالب مدرِّسًا بعد عشرين عامًا!

 

لاحظ كذلك أن “مؤسسة التعليم” – كمؤسسة اجتماعية – ليست محصورة فقط في التعليم الرسمي، وإنما تمتد إلى كل أشكال “نقل الثقافة” وتمريرها إلى الجيل التالي عن طريق أشكال أخرى مثل حلقات الدروس في المساجد،والعظات الأسبوعية في الكنائس، وخطب الجمعة،والحسينيات، البرامج التليفزيونية، وكل ما من شأنه أن يرسخ ويعيد نقل قيم الثقافة وتوجهاتها ومعاييرها إلى الجيل التالي.

وبذلك تصبح لديك علاقة دائرية بين ثلاثة أطراف: الثقافة، والدولة، والتعليم.

فالثقافة هي القوة المسيطرة في هذه المعادلة، وتنشأ عنها الدولة لتدير شؤونها السياسية، لكنها لا تستطيع في النهاية “كدولة” أن تتحدى الثقافة التي يؤمن بها الناس بشكل صارخ، ولا أن تتحدى منظومتهم القيمية، وإلا فقدت شرعيتها في التعبير عنهم وأصبحت في مهب الريح.

يمكنك أن تلحظ هذه العلاقة بسهولة في القصة الافتتاحية، فالأمّ التي تلقت تعليمها على يد مدرِّس يستخدم العصا، هي من أرسلت أبناءها ليتلقوا نفس التعليم، وليس ذلك وحسب، بل دافعت عنه باستماتة حين حاولت الدولة مواجهة هذا النموذج “غير الصحي” في التعليم. لأن الثقافة أقوى من الدولة في هذه الحالة، وهو ما تجلى في نهاية القصة بانتصار أولياء الأمور على قرار الدولة الذي يبدو في ظاهر الأمر “انتصارًا” للأطفال، بينما

استطاعت الثقافة في النهاية فرض نفسها و”الانتصار” لقيمها رغما عن الدولة.

والدولة بدورها تقوم على مؤسسة التعليم – الرسمي على الأقل – ويقوم التعليم بإعادة إنتاج الثقافة مرة أخرى، وهكذا…

المعادلة السابقة بالمناسبة عالمية، بمعنى أنها تعمل في كل المجتمعات دون استثناء. مؤسسات التعليم الرسمي في الولايات المتحدة على سبيل المثال؛ واجهت تحديات كبرى بسبب اختلاف يصل أحيانًا إلى حد الصدام، ما بين توجُّه “الدولة” وتوجُّه “الثقافة”. راجع مثلاً الجدل الدائر حول إضافة المدارس بعض الدروس التي تعترف “بالمثلية الجنسية” كنظام معترف به لتكوين الأسرة. راجع كذلك تاريخ قضية تعليم المرأة في المملكة العربية السعودية في ستينيات القرن العشرين، وردَّة الفعل الاجتماعية الغاضبة ضده.

لكن هل تبدو العلاقة مغلقة تمامًا بهذا الشكل، ولا إمكان لتغييرها؟

من أين يبدأ التغيير: كيف نكسر الدائرة؟

ليست المعادلة مغلقة بطبيعة الحال، فالثقافة أيضًا يطرأ عليها التغيير، وقد يحدث ذلك بشكل طبيعي بفعل التغيرات الاجتماعية والأحداث الكبرى على مر الزمن، وقد يحدث كذلك بفعل إرادي، بتدخل واعٍ ومتراكمٍ من الفاعلين الاجتماعيين والمبادرين وأصحاب دعوات التغيير، وهؤلاء جميعًا هم الذين يمكن أن نطلق عليهم في هذا السياق الاجتماعي “التنويريون”؛ بمعنى هؤلاء الذين لديهم أطروحات تطويرية على الثقافة القائمة ويسعون إلى التأثير عليها وإحداث تغييرات بمفاصلها الرئيسة.

وصحيح كما سبق القول إن “الدولة صنيعة الثقافة” وناشئة عنها، وإنها لا تستطيع الاصطدام بالثقافة التي يؤمن بها الناس بشكل صارخ، وإلا فقدت شرعيتها وظهيرها الاجتماعي، ولكن لا يعني ذلك أبدا أن الدولة عاجزة تماماً أمام الثقافة، أو أنها ليس لديها ما تفعله لإحداث تغيير أو تطوير على الثقافة القائمة. فالدولة يمكنها من خلال وسائل عدة، القيام بعملية أشبه “بالتفاوض” مع الثقافة القائمة، تتمكن من خلالها من إحداث تغييرات تدريجية على المدى الطويل، وبالتالي يمكن للدولة أيضاً أن تساهم في عملية “التنوير” بجانب باقي الفاعلين الاجتماعيين والمصلحين.

وكما هو واضح من المعادلة السابقة، يقف التعليم كأهم بوابة ممكنة لإحداث التغيير الثقافي. فالتعليم هو المحطة التي تكمن فيها فرصة إحداث حيود تدريجي عن الثقافة القائمة وإدخال مفاهيم وقيم جديدة، وكذلك زعزعة قيم ومفاهيم قديمة يراد تغييرها.

لاحظ أن هذا النوع من التغيير، هو تدريجي وطويل الأجل بالضرورة، ولا مكان فيه للتغييرات “الثورية”. فالثورة – كقوة غضب شعبي ممثلة في قياداتها وخطبائها ورموزها – في هذه الحالة مثل الدولة تمامًا، لا تستطيع أن تصطدم بالثقافة التي يؤمن بها الناس بشكل صارخ، وإلا فقدت شرعيتها هي الأخرى وخسرت ظهيرها الشعبي، وهو درس تعلمناه بكلفة باهظة في الثورة المصرية وتطوراتها منذ 2011 وحتى اليوم.

لاحظ كذلك أن مصطلح “التعليم” في هذا السياق ينسحب على المضمون التربوي للتعليم (أو المضمون التكويني كما يقول المغاربة)، مثلما ينسحب على المناهج الدراسية للمواد المختلفة ومحتواها وطريقة تقديمها. فعلاقة المعلم/ التلميذ تحتوي على ما هو أكثر من مجرد “شرح الدروس”، وإنما هي علاقة “تربوية” من الدرجة الأولى قبل أن تكون “تعليمية” بالمعنى التقني التقليدي للتعليم. وهذا الدور “التربوي/التعليمي” للمعلِّم هو ما يجعله البوابة الرئيسة لانتقال “الثقافة” إلى الجيل التالي بالطريقة التي تم توضيحها في المعادلة السابقة. وبالتالي يدفعنا ذلك للنظر في عملية صناعة المعلم ذاته وكيف تتم.

من يصنع المعلِّم؟ البيضة والدجاجة!

المُعلِّم بهذا الشكل هو “التنويري الأول”، فهو أهم شخص على الإطلاق في دائرة انتقال الثقافة، وهو كذلك أهم شخص في عملية تجديدها وتطويرها. ولفظة “المُعلِّم” هنا لا تشمل فقط “المدرِّس”، وإنما تشمل الأب والأمّ والقائد الروحي والقائد الرياضي وخطيب المسجد والقسّ ومحفِّظ القرآن وكل من له قدرة على التأثير في وعي الجيل التالي.

والسؤال الذي يمكن أن يجيب نفسه الآن: هل المعلم إذاً هو صنيعة “الدولة” أم صنيعة “الثقافة”؟ هل النمط التربوي/التعليمي الذي يتبعه المدرس هو أحد منتجات “الدولة” أم أحد منتجات “الثقافة”؟

يبدو الآن وبعد استعراض كل هذه المعادلات أن “المعلِّم” في الإطار العام هو صنيعة الثقافة، ولكنه في نهاية الأمر مفتاح الحل لكل الفاعلين الاجتماعيين المهمومين بإحداث تغيير حقيقي في واقع مجتمعاتنا المأزومة: الدولة، والدعاة، والمفكِّرين، والسياسيين، والمصلحين، والمؤسسات، والمبادرين، والثوار  وكل ذي ضمير.

أزمتنا الجوهرية ليست في “نظام الحكم” وليست في “نقص الإمكانات المادية” وليست في “التدخلات الأجنبية”، وإن كانت كلها بالفعل مشكلات قائمة… أزمتنا الحقيقية هي في “عجز الثقافة”…

فالثقافة التي يعيش بها العرب والمسلمون اليوم عاجزة بشكل حقيقي عن مواجهة التحديات، بل ربما أصبحت في كثير من الأحيان هي ذاتها التحدي والمشكلة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إحداث تغيير حقيقي وعميق في مجتمعاتنا دون تطويرها ودفعها باتجاه “ثقافة فاعلة” تستطيع مواجهة التحديات العميقة التي تواجهها المنطقة.

ولا يمكن أبداً إنجاز ذلك دون صناعة “المعلم التنويري”، أو “التربوي التنويري”؛ ذلك المعلم والتربوي الذي يملك الرؤية والأدوات للتعامل مع المفاصل الحقيقية للثقافة، والتأثير بشكل عميق في وعي الجيل التالي.

بهذه الطريقة، وبهذه الطريقة فقط، يمكننا أن نأمل في أن يعيش أبناؤنا وأحفادنا يومًا ما واقعًا أفضل في هذه المنطقة ممّا نعيشه اليوم.


[1]  راجع التسجيل المصور على الرابط https://www.youtube.com/watch?v=XdBaxwlRBjw&app=desktop

[2]  راجع مظاهرات أهالي القرية على نفس الرابط السابق

[3]  راجع إفادات الأهالي على الرابط https://www.youtube.com/watch?v=dkt4FCwyJ-Q

[4]  راجع احتفالات أهالي القرية على الرابط https://www.youtube.com/watch?v=CztOhdW-qgw&app=desktop

[5]  راجع تقرير حول القضية نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” في بداية التسعينات على سبيل المثال

http://www.nytimes.com/1993/01/06/us/schools-across-us-cautiously-adding-lessons-on-gay-life.html?pagewanted=all

[6]  لاحظ الفرق بين استخدام مصطلح “التنوير” في هذا السياق ودلالته التربوية، وبين استخدام نفس المصطلح في سياق آخر حول “التنوير الأوروبي” ودلالاته التاريخية.

[7]  يستخدم الأكاديميون مصطلح “بيداغوجيا” للإشارة إلى هذا الدور التربوي/التعليمي

جديدنا