المعلِّم من منظور سينمائي

image_pdf

من هو أفضل معلِّم لديك؟

لديك؟” مستهلكًا.. إلا أن الإجابة عليه حاضرةٌ في وعي كل من جلس أو يجلس على مقاعد الدراسة، يستذكر من خلاله نموذجاً أو اثنين لمعلِّم له الفضل في تغيير حياته وله مساهمة إيجابية في صنع مستقبله.

إذاً ما الذي يقتضيه أن يكون المعلِّم ناجحًا في عين المجتمع؟

في مقالتي هذه تطرقت إلى ثلاثة أفلام سينمائية حاولت الإجابة على السؤال الآنف ذكره، وصدف أن اتفقت كلها على أن نجاح المعلم غير مرتبط بالضرورة بالتصاقه بقوانين المؤسسة التعليمية أو مناهجها المعتمدة، بل إن سر نجاحه يكمن في فعله ما يلزم كي يدفع طلابه للإيمان بشغفه والإحساس بصدق دافعه فما تلبث أن تنتقل عدوى البحث، والمعرفة، والتساؤل، وشعلة الدهشة والفضول إلى الطلاب القابعين على صدور مقاعدهم فيتتبعوا خيط النور الذي سيخلصهم من ظلمات الرتابة والملل.

لا يمكن للمرء أن يخطئ الحزن في عيني صديقنا “روبين ويليامز” صاحب اللسان المفوه السليط والكوميديان الموهوب الذي امتلك القدرة على إضحاك الجميع عدا نفسه، عينا الموناليزا هاتان تنبأتا بنهايته المأساوية معلقًا على حبل المشنقة التي فتلتها يداه، فقضى منتحرًا تاركًا وراءه إرثًا سينمائيًا مفعمًا بالأدوار الملهمة.

ولعل هذا بالضبط ما يتطلبه دور معلِّم اللغة الإنجليزية “جون كيتينج” في أكاديمية “ويلتون” الأرستقراطية في فيلم “مجتمع الشعراء الموتى” أو “Dead Poets Society”  والذي ملأه “ويليامز” بثقله الأدائي وجموحه الشعوري المحلق.

أكاديمية ويلتون هي مدرسة داخلية في شمال شرق الولايات المتحدة اعتادت على تخريج طلاب يتصدرون مجتمعهم أكاديميًا وسياسيًا واجتماعيًا، يـعـيش في أروقـتها مـجمـوعة من المراهقين الذين يشتركون في ترفهم وارتفاع سقف توقعات أهلهم منهم في حمل إرثهم وإكمال نجاحاتهم دون مراعاة لفروقات الآباء عن الأبناء واختلافاتهم في الفلسفة، ونسق التفكير أو الاهتمام.

عمل “جون” بالمَثل الأمريكي الشهير “الانطباع الأول هو الأكثر أهمية” فخلف في نفوس طلابه بعد لقائه الأول وخطبته العصماء غريبة الأطوار شعورٍا لذيذًا غريبًا ومثيرًا للاهتمام. “جون” على عكس أقرانه طلب من طلابه مناداته “بالكابتن” عوضًا عن أستاذ أو سيّد، متيمنًا بقصيدة  “وايت ويتمان” في الزعيم الأمريكي “أبراهام لينكولن”

O Captain! My Captain!

كان هو نفسه طالبًا متفوقًا في ذات الأكاديمية وهو ملمٌّ تماماً بالتحديات العصيبة التي أسلفنا ذكرها، فكان له فضل السبق في كسر حالة النمطية السائدة عندما قرر أن يتابع حلمه حتى لو تعارض الأمر مع توقعات الآخرين منه.

وقرر فضلاً عن ذلك أن ينقل شغفه إلى قلوب طلابه فيجعلهم ينظرون إلى “الشعر” – المادة التي يدرسها- وإلى الحياة ككل بطريقة مختلفة أكثر منطقية من الفكرة التي يحملونها الآن في رؤوسهم.

بعد أن طلب “الكابتن” منهم تمزيق مقدمة كتابهم المدرسي التي تقيس جودة الشعر بعرضها على محور ديكارتي رياضي بطريقة مجردة من الإحساس فجة ومسيئة، همس في أذني طلابه وقال لهم:

“لدي سر صغير لكم.. احتشدوا.. احتشدوا..

نحن لا نقرأ ولا نكتب الشعر، لأنه ظريف

نحن نقرأ و نكتب الشعر لأننا أفراد من الجنس البشري والجنس البشري ممتلئ بالعاطفة.

الطب، والمحاماة وإدارة الأعمال، والهندسة هي حِرَفٌ نبيلة ومهمة لكي نحافظ على الحياة ولكن الشعر، والجمال، والرومانسية، والحبّ؛ هذه الأشياء التي نعيش من أجلها!”

المعلِّم طلب منهم يومًا أن يصعدوا على أظهر دروجهم وينظروا لغرفهم الصفية من علٍ، إذاً هي فرصة حتى ينظروا إلى مساحة مكانية عايشوا أدق تفاصيلها من خلال حياتهم اليومية بطريقة مختلفة.. كذلك الحياة!

“حين تظنون أنكم تعرفون شيئا، يجب أن تنظروا إليه بطريقة أخرى حتى لو بدا سخيفًا أو خاطئًا.. يجب أن تحاولوا حين تقرأون، لا تهتموا بما يفكر به الكاتب فقط، بل اهتموا بما تفكرون به،امتلكوا الشجاعة لكي تخطئوا، و تجدوا أرضًا جديدة”

غير بعيد عن حماسة “ويليامز” تنطلق “هيلاري سوانك” بعينيها الحادتين لتقف أمام جمهور مختلف تماماً في الغرفة الصفية في الفيلم المبني على قصة حقيقية “كتّاب الحرية” “Freedom writers”.

ففي حين تعج أكاديمية “ويلتون” بالبيض الأرستقراطيين حصريًا تقف مدرسة “وودرو ويلسون” على النقيض بامتلائها بالأعراق المختلطة من الطبقة المسحوقة والفقيرة.

التحديات لدى الآنسة “إرين” مختلفة، فأمامها يقبع طلاب أُشربوا كره بعضهم على أساس عنصري وتربّوا على قيم ملوثة تبدأ بحسهم المشوه للانتصار لأعراقهم ولا تنتهي بفكرة عدم الوشاية ببني جنسهم إن هم أخطأوا تحت أي ظرف، والتستر على جنوحهم وجرائمهم والشعور بالرضى عن ذلك.

الطلاب موجودون في المدرسة لأجل أسباب كثيرة لعل حرصهم على التعليم هو أقلها أهمية!

إدارة المدرسة بدورها تعي ذلك جيداً..فأقصى أملها إنفاذ المدة التي ألزمهم بها المجلس التربوي والتي تدعى بالتعليم الإلزامي، هو تفاهم متبادل إذاً بين الطلاب والإدارة أن أحدهم لا يتوقع شيئاً من الآخر. هنا بالذات جاء دور “أيرين” لاعتراض التسوية الركيكة بين الطرفين.

هي تعلم أن الإدارة لن تدعم مشروع المعلمة ماديًا، لا بأس أجابت “آيرين” وبدأت في العمل في وظيفة ثانية بعد انتهاء الأولى بهدف تمويل مشروعها التربوي، ثم عملت على تذويب الفروقات بين طلابها بزرع فكرة أن التعليم هو السبيل للخروج من المستنقع الذي يشتركون فيه.

أوكلت المعلمة لهؤلاء الطلاب أن يكتب كل شخص منهم مذكراته ويستعرض فيها مصاعبه اليومية في حيه الفقير ساردًا مشاكله العائلية، والاجتماعية، والاقتصادية، ثم يقوم بقراءة مذكراته أمام الطلاب. أدرك الجميع الحقيقة التي كانت غائبة؛ وهي أنهم أقرب إلى بعضهم من أي وقت مضى. هم جميعًا بشر ينتمون إلى ذات الطبقة ويواجهون ذات التخوفات، وليس لديهم سوى خيار العلم لكي يتغلبوا على مصاعبهم ويوقفوا كرة الثلج المتدهورة المبنية من آلامهم.

“كيفين سبيسي” هو الرجل الرصين واللاعب المثالي لدور الحكيم أو الداهية في هوليوود، ذو العينين اللامعتين.

في فلم “Pay it forward” أو “ادفعها للأمام” يقف المعلِّم “إيجوين” أمام طلاب المرحلة الابتدائية ثم يطلب منهم وظيفة مدرسية غير تقليدية ستغدق عليهم بالعلامات الإضافية، ليست بهذه الصعوبة فهو فقط يطلب منهم تغيير العالم!

“ما الذي فعلته أنت لكي تغير العالم؟”؛ هكذا رد أحد طلاب الصف بطريقة ماكرة ومحقة على وظيفة أستاذه الحالمة. أجاب المعلِّم:

“حسناً تريفور، لقد حظيت بنوم هانئ ليلة البارحة.. وتناولت إفطارًا متنوعًا.

ثم حضرت إلى المدرسة على الموعد، ثم نقلت المسؤولية لكم”.”تريفور” بدوره أخذ كلام الأستاذ بجدية وبدأ مشروعًا يحمل اسم الفيلم.. “ادفعها للإمام”، يقتضي أن يفعل المرء معروفاً لشخص يحتاجه بشرط أن يكون المعروف ديناً على ذي الحاجة فيسدده بعمل معروف من نوع آخر لإنسان آخر بحاجة إليه، ثم تمضي العجلة ويغدو كل إنسان ذو فضل على أخيه أو مدينًا له.

إذا تغيير العالم في النهاية أمرٌ ممكن!.

“ويليامز” “سوانك” و”سبيسي”.. ثلاثتهم تقلدوا جائزة الأكاديمية “الأوسكار” ذائعة الصيت مرةً واحدة على الأقل في مسيرتهم المهنية، إذاً هم ليسوا مجرد هواة في أفلام عابرة، ولعل هذا ما قد ساهم في تعزيز قيمة الأفلام الثلاثة من الناحية الفنية، وعلى هامش المقال أستطيع أن أخبركم أن عيون المرء في السينما لها دلالات بليغة في الأداء، فالعينان الحزينتان دالتان على الشغف، والحادتان على العزيمة واللامعتان على الفكرة.. عيون أصدقائنا الثلاثة حملوا معهم هذه العناوين.

عودًا على بدء، إذاً من هو المعلِّم المتميز؟

هو ذاك الغواص الذي يكشف عمّا يختبئ في أعماق الطالب وأغوار نفسه من در مكنون، فيعمل على اكتشافه وتعريفه به لكي يستشعره، ويحسّه، ثم يؤمن به وينمّيه.

هو الذي يحرره من قيد نظرة المجتمع وإملاءات الأهل المتغطرسة التي تسعى إلى سرقة الإنجاز ونسبته من غير وعيٍ إلى غير صاحبه.

فحق الإنسان في النهاية هو إرادته الحرة في اختيار ما يريد، وفقًا لفلسفته وإدراكه لمواهبه وشغفه وحدسه. هو الذي يحرّك الماء الراكد من خلال هزّه لوعي الفتيان. هو ساعة المنبه الجرسي المزعج الذي يوقظ كيان أبنائه ليستفيقوا من سبات الاعتيادية.

هو حتماً ليس ذلك الذي يكرس بؤس الطالب ويفاقم مشاكله النفسية، فغرفة الصف أولاً عن آخر تضج بعوالم من الأنفس والأرواح المعقدة. يرصد بذكاء مصاعب طلابه ومخاوفهم ويكون سببًا في تقليص ذاك البؤس أو استئصاله أو إبداله بحالة من الإيجابية والديناميكية.

الكلمات والأفكار.. تستطيع تغيير العالم

هذا ما خاطب به صديقنا “جون” طلابه، حسناً وكذلك المعلِّم الجيد.

جديدنا