Site icon التنويري

شرعيَّة الفكر:الهويَّة والدين بين هواجس الماضي وإكراهات الحاضر

تجدُّد الوعد:

أرسينا بعض المفاهيم في مقالتينا السابقتين حول شرعية الفكر، ونعود مجددًا لنلق مزيدًا من الضوء على عناصر مهمة كثيرة تقف حائلًا دون التمكن من تحقيق انطلاقة حقيقية في مساعي الفكر العربي لتحقيق النهوض المنشود. إذ إن هناك عدد لا يُحصى من الإشكاليات الفكرية؛ في مقدمتها مسألة الهوية والدين، وما يماثلهما؛ ويزيد عليهما، من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي بلغت في بعض جوانبها مراحل خطيرة للغاية، تجاوزت مقدمات الصراع التقليدية إلى حروب طاحنة تسحق كل عوامل الاستقرار المجتمعي، وكل ما أُنْجِزَ في مشروع بناء الدولة الحديثة. وتُشير القراءة المنهجية لسياقاتها الماثلة إلى أن هناك توجهات تتعمد دمج الخصائص الأيديولوجية لهذه الإشكاليات وكأنها اشتباكُ قدرٍ بين الأمة والدين، كما تمثل قضية الهوية العربية، في مثل هذا العصر العولمي، موضوع نقاشات وحوارات دائرية ما أن تنتهي حلقة من حلقاتها إلا وتبدأ من جديد، ويضاف إليها غير هاتين المعضلتين مما يعتمل في صدور وعقول المفكرين العرب من تفاصيل “روزنامة”، أو يوميات حبلى بالمفاجآت. لذلك، فإن الإشكاليتين اللتين تواجهان الفكر العربي؛ الدين والهوية، يخفيان تحتهما جبالًا من المشكلات الحياتية؛ سياسية ودبلوماسية واستراتيجية وإنمائية اجتماعية وتنموية اقتصادية، إلى جانب ما يرتبط بهذه المشكلات من نواظم إدارية، وتخطيطية، وإشرافية، واستشرافية. ولذلك، فإن التركيز على الراهن، ونوع المشاكل القائمة، ضروري لاستمرار وجود شعلة الفكر الواضح، الذي يتمكن من إضاءة واستنباط طرائق تشخيصها ومعالجاتها، وحماية تماسك المجتمع، وتعزيز أواصره، وتوثيق عراه ووشائجه، من خلال تعزيز قدرته على الدفاع عن مصالحه. وهذا يعزز بدوره قناعاتنا بأن شرعية الفكر المنتج هي في كل ما يُمَكِّنُ المجتمع والدولة من الاستفادة من تفاعلات وتراكمات الفكر البشري على مستوى المجال العام، الذي يتخالط معه. فما تشهده المجتمعات العربية يخلق لدى كل حادب على الإصلاح الشعور بأنه لم يتبق سوى القليل من الوقت لمواجهة هذه المشاكل القابلة للحل، وأهمها الوقف الفوري للصراعات والحروب، وتحفيز الهمم لدفع درجة النمو الخاص والعام، وتهيئة العقل لامتلاك ناصية الإدراك المناسب لمعنى التحرر المعرفي، الذي يؤكد جدوى الاستقلال.

بالنسبة للدولة العربية، فإن معنى الاستقلال قد بُنِيَ على أساس معنوي ومادي لأفكار النهضة، إلا أن التوسع البطيء للمنافسة لم يوفر فرصًا وإنجازات جديدة ملهمة ومعززة في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية، وخلق إعادة تجسيد عصري وروابط نقدية مع الماضي. وبالإضافة إلى أن أفكار الوحدة الوطنية المتسقة مع طريقة التكوين الاجتماعي العربي، ظلت تتضمن رمزية إسلامية، أو على الأقل إمكانية وجود أوضاع إسلامية كنمطٍ للتطلعات والتنمية العربية الجماعية، باعتبار أنها تمثل التصور الحقيقي للأمة وفقًا لبوصلة تطلعاتها الجماعية؛ وليس أدل على ذلك ما توافقت عليه شعارات الثورات والحركات السياسية والاجتماعية الكبرى؛ من لدن جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي في مصر، إلى ثورة شريف مكة الحسين بن علي، والدستور الفيصلي في سوريا، وحتى الأطروحات الناصرية والبعثية، التي نادت بشعارات أمة واحدة ذات رسالة خالدة؛ بمعنى أن الهوية العربية يلازمها ويؤكدها دائمًا الدين، مُلَخَّصًا في رسالة الإسلام. فقد أجملت جميع هذه الحركات والثورات والشعارات تَصَوُّر واقع اجتماع الدول العربية مع العالم الإسلامي، أو النظر إليهما؛ العرب والمسلمين، في نِطاقٍ حضاري واحد. وذلك من خلال دمج المجتمعات العربية داخل ووسط المجتمعات الإسلامية الأكبر، بممسكات هذه الوشيجة القيمية. مع إدراكٍ سليم لمستويات خصوصية الوجود العربي الأكثر تشاركية والأكثر تطلبًا للوحدة، من أمة إسلامية اختلفت مشارب أقوامها، وتعددت توجهاتها. وما التشكيلات الأيديولوجية الدينية المجتمعية التقليدية، وما يلزم طبيعتها الوظيفية والإنسانية، وكذلك جوانبها العاطفية، إلا سعيٌ لتضييق الفجوة الاجتماعية. لذلك، فإن الطرق الاجتماعية التقليدية والقوى والطبيعة الحديثة والأنماط الاستعمارية والسياسية المتعددة، التي واجهتها الدول العربية، أدت إلى خلق مجتمع عربي جماعي على شكل ما نُصِرُّ على تعريفه بـ”الوطن العربي”. ولذلك، فإن تطوير التعبيرات العابرة للحدود لمنطق الوحدة، وإعلاء شرعية فكر النهضة المعاصرة في المجالات الاجتماعية العربية، وتضييق الفجوة بين الدول العربية سوسيولوجيًا، وكذلك تعميق التعاون الحكومي الرسمي فيما بينها، هي سبل مُبَلِّغٌ لخلق الشعور الوحدوي بين هذه الدول، وولاءات المشاعر لهذه الطبيعة الوحدوية في المجتمعات العربية المعاصرة.

لهذا، يمكن القول إن العديد من الاتجاهات الجديدة السائدة في الفكر العربي منذ الحرب العالمية الثانية هي اتجاهات متأخرة جدًا عن التعامل الجدي مع ما طرأ من إشكاليات، وأن قواعدها المادية والفكرية كانت في الفئة الأكثر احتياجًا للنظر وترقية التصورات من بعض مثيلاتها في دول العالم الثالث. وللنهضة أنساقٌ مشتركة مع ما تعاظم حوله الحديث تحت عناوين؛ مثل، التنوير، والحداثة، وما بعد الحدثة، وغيرها من صادرات الفكر الغربي الثقافية، وحتى لو كان يُعْتَقَد أن مصادرها وشرارتها المبكرة تنبع، في المقام الأول، من الفائض التكنولوجي والرأسمالي العالي للدول الغربية، سواء كان ذلك بدافع العقلنة الدينية والأخلاقية والإنسانية والاقتصادية، أو ما رافقها من أهداف الصفقات السياسية والاستراتيجية، وإنتاج محيط الهيمنة، ورادع التفوق العسكري. لكل ذلك، فإن الحاجة للوعي بالذات ظلت أكثر الحاحًا؛ ناهيك عن متطلبات إعادة البناء الثقافية والقيمة، وتَدَارُك الانهيار العاطفي، والتهديدات التكنولوجية في العصر الحديث. إذ إن الوظائف والآثار المستمرة المثبطة والاستغلالية للترتيبات المستمدة من الغرب على المجتمع العربي، والبصيرة العربية المُدْرِكَة لنتائجها الرئيسة؛ “الاغترابية” منها والمُخَدِّرَة، ربما لا تكون فقط أفضل المصادر وأكثرها ترخيصًا لمناهضة التطبيق المختار للاتجاهات الغربية السلبية، ولكن أيضًا هي صِحَّة المسعى والقوى المحفزة لأساليب التغلب عليها.

الخلفية والأهمية:

لقد شهد الفكر العربي، خلال العقدين الماضيين، تغييرات عبرت عن نفسها في شكل محاولات لإيجاد تفسيرات تواكب الخضات العنيفة، التي سبقت وصاحبت انتفاضات الربيع العربي، وركن بعض أصحاب الرأي في اتجاه سياسي منفتح، أو أيديولوجي مغلق، وحاولوا اعتساف تعميمات على حالات تداخلت سماتها العامة، وإن اختلفت غالب تفاصيلها. فمثلًا على المستوى الوطني، تمثلت هذه المحاولات في ممارسة الضغوط لتصحيح حركة المجتمع نحو المستقبل، خاصة بعد انهيار بعض الأنظمة الحاكمة، وما تبعها من تخريب مؤسسات الدولة واشتداد تأثير الأزمة الاقتصادية. الأمر الذي مَيَّزَ جانب منها الشعرات العاطفية الليبرالية في مناشدات قوى اليمين، ومنهم من فضل غوغائية شعارات قادة اليسار، من دون إعمال لشرعية الفكر الحقيقي، المنبثق من أصالة الواقع وإكراهات الراهن وتحدياته، للنفاذ إلى عمق الأزمة في المنطقة كلها، واستجلائها وتوصيف سبل معالجاتها. وقد تجلى هذا الضغط العاطفي بشكل كبير في المطالبة بإقامة نظام ديمقراطي بدلًا من الأنظمة، التي أسقِطَت، من دون التأكد من وجود البدائل الحافظة لأصول الدولة وهياكلها الناظمة لبنياتها ومؤسساتها المادية والمعنوية. وتأكيدًا على وجود توجه عام يعبر عن روح الفكر العربي، واتجاه الأمة العربية نحو هدف أعلى؛ قبل أن يفرض عليها الخارج التوازنات الداخلية، التي يرغبها، والتي تنظم العلاقات الخاصة بين مكوناتها، كتعبير عن التواؤم مع إنهاء العقد السياسي القديم وتمظهراته المحلية في الواقع، وتداخلها مع المحركات الدولية الحاضرة بذاتها، أو عبر وكلائها.

إن مواجهة المصادر الكامنة وراء هذا الدافع للبناء؛ بعد إعادة التنظيم، تجري الآن على نطاق أوسع متمثلًا في البحث عن اتجاهات جديدة للفكر، وفي طرق جديدة للسلوك العملي، وفقًا لمحددات ومطلوبات كل بيئة سياسية، أو اجتماعية، في الوطن العربي. ومع ذلك، يبدو أن هذا البحث أكثر نضجًا في الجزء، الذي لم يتأثر بانتفاضات الربيع العربي، منه في بقية دول الوطن العربي. وعلى الرغم من مواردهم المحدودة، وضعف مشاركاتهم نسبيًا، وتنوع الأيديولوجيات التقليدية، التي ينتمون لها ويتوزعون عليها، فإن بعض المفكرين العرب بدأوا يستخدمون أنظمة فكرية أخرى بشكل واع وموجه جيدًا في جهودهم لإيجاد حلول عملية محلية لمجموعة متنوعة من المشاكل الأيديولوجية والتعليمية والتنظيمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تشغلهم. ونرى أن هذه الجهود الفكرية تستحق الاهتمام الكامل والتعاطف والدعم من كل مراكز البحث والدراسات، واتحادات الكتاب، والتجمعات الأكاديمية. ونحاول هنا، في إطار أهداف منتدى الفكر العربي، أن نولي هذا الأمر أقصى درجات اهتمامنا، آملين أن يتقدم بعض الباحثين لتوضيح الخطوط العريضة لهذه الجهود، وأن يعطوا تقييمًا موضوعيًا للعناصر القيمية في هذه الأفكار العربية الحديثة.

وما نُدرِكه في المنتدى، أو ما نحاول أن نستدركه مع شركائنا في المراكز البحثية الأخرى، أن عدة عوامل لعبت دورًا رئيسًا في تحفيز الأشخاص المشاركين في مجالات الأفكار والنظر في المعتقدات الأيديولوجية لبدء عملية التفكير هذه، والتأكيد على شرعيتها. والعامل الأول والأهم هو تحقيق إعادة تصور البناء الاجتماعي والاقتصادي ما بعد الربيع العربي، وهذا هو عين ما حدا بمنتدى الفكر العربي أن يُصدر “الميثاق الاجتماعي” ومن بعده “الميثاق الاقتصادي”، كبادرتين لتركيز الانتباه على هاتين المسألتين؛ الاجتماعية والاقتصادية، باعتبارهما أس الانتفاضات، التي قلبت موازين السياسة والحكم في المنطقة. وعَمِلَ على إدارة الحوار الواسع حولهما، وأُبْلِغَت نتائجه لكل قادة الدول العربية؛ من ملوك وأمراء ورؤساء جمهورية، ورؤساء وزراء وقادة أحزاب. كما تبنى المنتدى إصدار “الميثاق السياسي”، وشرع في إعداده وإدارة حوارات حول بنوده، لكن لم يكتمل لأسباب ارتبطت بهيكلته الداخلية وقتئذٍ. وقد أصبحت هذه مهمة ملحة للغاية عندما تعثر مجتمعات ثورات الربيع العربي، خاصة الأجزاء المضطربة منه، في تحقيق مطلوبات التغيير، وتخاذلت الشرعية الثورية في تلبية الاحتياجات الأساسية؛ جنبًا إلى جنب مع العجز في الاستجابة للطموحات المتزايدة لمستويات أعلى من المعيشة والتقدم الثقافي والسياسي. وهذا العامل الأخير؛ أي الثقافي والسياسي، هو الآخر، الذي خلق ضغطًا على صناع الفكر من أجل إعادة النظر المدروس في بعض أعقد مشاكل المجتمع العربي، ما أوجب على المنتدى بذل جهودٍ أخرى تعدت الميثاقين المذكورين، وتُرْجِمَت في إصداره، بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للعلوم والتربية والثقافة “إيسيسكو”، لـ”وثيقة الحقوق الثقافية في العالم الإسلامي”، التي اعتمدت بالإجماع من قِبل وزراء الثقافة في منظمة التعاون الإسلامي، في اجتماعهم بالمدينة المنورة، في يناير من عام 2014. وهناك عامل آخر حفز قادة الفكر من أعضاء المنتدى وهو الاتجاه الإيجابي للتطورات في القطاع غير السياسي في العالم العربي ككل. ويتوقع هؤلاء المفكرون؛ وفي تداخلهم الوثيق مع صناع القرار، أن توفر إعادة النظر المدروسة المصدر المناسب لعناصر هذا الاتجاه الإيجابي. ففي جهودهم لتحقيق ذلك، لا شك أنهم يستفيدون حقًا من ثمار الأفكار والبحث العلمي المتاحة في المجتمع العربي، والمجتمعات الأخرى.

ولإعطاء لمحة تاريخية عن الفكر السياسي العربي، يؤسفنا أن نقول، ابتداءً، إنه فشل في تحقيق التحول السريع في غالب الدول العربية إلى جمهوريات، لكنه انتبه لاحقًا للبحث عن تعريف الذات والهوية لأنهما أديا إلى ولادة بعض الخصائص، أو علامات التشكيل، أو الأنماط الظاهرية الوطنية. ويبدو أن بعض آراء المفكرين العرب، أمثال طه حسين، قد تأثرت برؤية محمد إقبال من الهند، وهو شخصية مهمة في النهضة الهندية. فقد أكد إقبال في كتابه “حاجة الساعة” أن الهدف الرئيس للثقافة الهندية الإسلامية هو التوافق مع شكل وجوهر المجتمع الجديد. ومع ذلك، أدى البحث السريع عن الانسجام الداخلي إلى بعض الاتهامات والخلافات الحادة، حيث اتهمت جميعها النخب الأيديولوجية العربية المختلفة بالخصوصيات العربية والإسلامية. وأرجع بعضهم معظم الاتهامات بسبب الثبات البشري؛ أي التأخر الأخلاقي والحضاري، وزوج آخرون بين السمات المادية وغير العادية الصعبة، فيما اتجه المفكرون التقليديون وبعض الليبراليين إلى الاعتراف بأنهم مزيج من العناصر القديمة والحديثة، وخليط من المكونات الحداثية العربية الإسلامية والعلمانية.

الدين والعلمانية:

يمكن وضع العلاقات في الدولة ككيان منفصل، تحدده القوانين والمراسيم والاتفاقيات الدستورية المعمول بها، ليس بالضرورة أن تتوافق مع تفاصيل العلاقات الاجتماعية في المجتمع. لكن، من يتأمل حول العلاقة بين الدين والسياسة، وتأثير الدين على تشكيل المجتمع والقانون، وتوجيهات الإسلام بشأن الدولة، يجد ترابطًا من الصعوبة بمكان تخطيه بشكل كامل. لذلك، اقترح بعض أهل الفكر أن تُفسر العلاقة بين الدين والسياسة بالاقتران مع النظام الحاكم، وأن سياسات السلطة السياسية وسلوكها مرتبطان بالخطاب الديني للدولة. كما خلص البعض الآخر إلى أن السلطات يجب أن تلتزم بالقواعد والقيم العليا، والتي ستمارس المسؤولية الشخصية لتكون بمثابة دليل. في مثل هذه الحالة، فإن استخدام الدين من قبل الحكومة سيفقد جاذبيته. وهكذا، لن يصبح الزعماء الدينيون مهتمين بالإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، بل السياسية، مع التركيز على مبادئ الحق والحرية والشفافية، فضلًا عن احترام نتائج الانتخابات العامة، أو ما يتطلبه الدين نفسه من الحض على حرية الاختيار. وبعد صعود الإسلام السياسي وتعزيز الأبعاد الدينية للقضية الفلسطينية، قام المفكرون العرب بمراجعة وتقييم مفاهيم الدين والعلمانية، وسط نقاشات لم تخل من جدل أيديولوجي. وخلصت الأغلبية إلى أن العامل الديني حي في المجتمع العربي، سواء في جوانبه العامة، أو الخاصة، أو الثقافية، أو الاجتماعية، أو السياسية. ولا تزال العديد من القيم والمعتقدات التقليدية مجتمعة جدليًا في الأفكار والمناهج والسلوكيات. والمجتمع العربي، الذي لا يزال محكومًا إلى حد كبير بهذه التقاليد، متساهل في تنفيذ القواعد والقوانين واللوائح. وينظر إلى المشاكل على أنها مرتبطة بالظروف الثقافية وليس بالظروف الاقتصادية، أو السياسية.

سياقات الفكر العربي:

بشكل عام، يلزم وضع الاتجاهات الفكرية العربية في سياقها العربي، أو الإسلامي الأقرب، ومن ثم يمكن وضعها في سياق الاتجاهات الإقليمية والعالمية الأوسع. وهذه مهمة معقدة ومتعددة المستويات ومتعددة الأوجه، إذ تنطوي الأبعاد العالمية للفكر العربي على العديد من مظاهر العلاقات المشتركة، والمبادلات المختلفة بين المجتمعات العربية وبقية مجتمعات العالم. ويتعلق هذا المستوى من العلاقات فقط بتلك، التي هي نتيجة للتطور التاريخي للفكر العربي في تلامسه مع الفكر العالمي، وما تحقق من قابلية النماذج والنظريات الأجنبية للسياق الثقافي العربي، وتلك الفرضيات العامة المتعلقة بالخصائص المستقبلية للفكر العربي.

إن الطفرة الحالية للعولمة الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية لها تأثيرها على جوانب مختلفة من الحياة، بما في ذلك الاتجاهات الفكرية والثقافية. ولا يمكن تحليل الفكر العربي الحديث تحليلًا صحيحًا من دون وضعه في السياق الحالي للاتجاهات الفكرية العالمية. فقد أدى انشغال جميع المجتمعات، التي تعاني من مشاكل متشابهة بشكل أساس إلى زيادة الاتصالات والتأثير المتبادل وتبادل الأفكار. وهذا بدوره عزز التقارب بين الاتجاهات والنهج، الذي يعيق التمييز الواضح بين الخصائص الفريدة للفكر العربي وتلك المشتركة مع الآخرين.

التأثير والاستقبال:

لقد قطع الفكر العربي مسيرة طويلة وعامرة من التشكل، ومن المأمول أن يكون أكثر تطورًا وفهمًا، خاصة من قبل الطبقة السياسية العربية، إذ يصبح واجبًا على العالم العربي إظهار أنه من الممكن دراسة المشاكل الفلسفية القديمة للحياة؛ من الديني والأخلاقي إلى النفسي والسياسي والاقتصادي، وكذلك مشكلة الحق والعدل، ومن ثم النظر المستشرف للمستقبل. والنتيجة العامة، التي يمكن الحصول عليها في هذا العمل هي أن مشاكل الحياة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا ببعضها البعض وأنه من الممكن بالفعل دراستها بطريقة متماسكة ومتجانسة. ومهما كان عمر البشرية، هناك دائمًا أشياء مهمة يجب تعلمها من ماضيه وحاضره. وهذا يفسر لماذا دراسة الفكر الإنساني في المجتمع العربي ممكنة طالما أننا نبذل الجهد لخوضها. ونحن مقتنعون بأن هناك ما يكفي من الأشياء الهامة والمفيدة، التي يمكن تعلمها من أي عمل فلسفي، أو علمي لتبرير هذا الجهد. لقد صنع العرب جزءًا كبيرًا من هذا الميراث من خلال محاولة التعلم؛ ليس فقط من التقاليد العربية والإسلامية، ولكن أيضًا من التقاليد اليونانية والفارسية والهندية والكلدانية والعبرية والمصرية، جنبًا إلى جنب مع التراث العربي، ثم بدورهم نقلوه للآخرين. لقد تعززت هذه التأملات والتبادلات وتوسعت، واستفاد الناس من هذا التقليد والفكر الفلسفي والعلمي على مر العصور، بعد بضع سنوات من وصوله إلى العالم. وستزداد قوتها، وفي الوقت نفسه، سيتم ربط كل من المجموعات المهنية والروحية والفكرية بهذا التقليد؛ إنها مثال للواقعية.

خاتمة:

لقد ظهر جليًا أن الفكر العربي ليس عنوانًا جديدًا، ولا هو معزول عن السياقات العالمية في الماضي والحاضر، ولن يتخلف عنها في المستقبل. وهكذا يشارك المفكرون العرب بشكل مباشر في القضايا المتعلقة بالتحول الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي في بلدانهم العربية والعالم. إذ تمر المجتمعات العربية بنفس عملية التحديث المضنية، التي تعيشها المجتمعات الزراعية وما قبل الصناعية المعاصرة في الغرب. وعلى الرغم من أن هذا التطور لا يزال في مرحلة مبكرة، إلا أنه، من نواح كثيرة، يشبه إلى حد كبير ذلك، الذي حدث في أحد المجتمعات الأوروبية القديمة على مدار التاريخ. وفي حين أن التحديث، على الأقل في المدى القصير، يؤدي إلى اختلالات اجتماعية وثقافية، فإن السلطة التقليدية للمؤسسات الدينية والأسرية والطابع المقدس لممارساتها تتضاءل، مما قد يتسبب في أن يصبح الفصل الحاد بين النظم والتغيير واضحًا، ومدعاة لاضطراب اجتماعي، وربما سياسي.

إن تنوع اتجاهات الفكر العربي هو نتاج تنوع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تواجه المثقف العربي. ولذلك، فإن مواجهة هذا الفكر متعدد الأوجه مع الظروف المتغيرة للعالم العربي تؤدي إلى اتجاهات جديدة، تمثل استجابة حتمية للحاجة إلى تكييف التراث القائم للثقافة والأنظمة والمؤسسات مع البيئة المحيطة. وعلى الرغم من كثرة ما يتولد عن ذلك من اتجاهات متناقضة، إلا أن هناك بلا شك تيارًا خفيًا من رفض الماضي، ومعارضة، كما رأينا أعلاه، للفكر، الذي ينظر إلى الوراء، وتحركًا نحو الالتزام بالتغيير الاجتماعي والسياسي. وبالتالي، فإن الاتجاه العام للتنمية المستقبلية يبدو واضحًا، إذ يمكن القول إن دور الفكر العربي يتعاظم استجابة للاعتراف بعدم كفاية النظم الحالية، والحاجة الملحة للتغلب على الجمود، وتسريع التنمية، وسد الفجوة بين النظرية والواقع.

* الأمين العام لمنتدى الفكر العربي، الأردن

الأحد، 3 نوفمبر 2024

عمان، المملكة الأردنية الهاشمية

Exit mobile version